إضاءات على ملفات عن الجواسيس مع العدوالإسرائيل
أمينة المفتي… الأرستقراطيّة التي أدمنت الخيانة ........
ملف 1
عاش الجواسيس في خيال الناس كشخصيات وهمية ساحرة منذ فترة طويلة، فمن منا لم ينبهر بشخصية الجاسوس الشهير جيمس بوند ولم يتابع أفلامه بشغف شديد،
ولكن هل يعرف الناس، على وجه اليقين، شيئاً عن حياة هؤلاء الأفراد الذين اختاروا «الفن القذر»، خاصة أن الخيانة لديهم تنبع من معين الجشع والطمع وحب المال وضعف النفس ووهن الإيمان وغياب الولاء والانتماء والسعي لإرضاء الشهوات والوقوع فريسة للنزوات.. دون أن يقروا بمبدأ الرحمة ولا نداءات الضمير الذي قد يستيقظ فيهم أحيانا.
ولكن هل يعرف الناس، على وجه اليقين، شيئاً عن حياة هؤلاء الأفراد الذين اختاروا «الفن القذر»، خاصة أن الخيانة لديهم تنبع من معين الجشع والطمع وحب المال وضعف النفس ووهن الإيمان وغياب الولاء والانتماء والسعي لإرضاء الشهوات والوقوع فريسة للنزوات.. دون أن يقروا بمبدأ الرحمة ولا نداءات الضمير الذي قد يستيقظ فيهم أحيانا.
إنه عالم غريب يفتقر إلى العواطف، ولا تصنيف للمشاعر تحت سمائه وفي دهاليزه المظلمة الغامضة. إنه عالم تستهوى فيه العقول على اختلاف مداركها وثقافاتها..عالم تقتحم فيه عوالم غريبة غامضة تضج بعجائب الخلق وشذوذ النفس..عالم متوحش الأذرع، عديم الصفاء، لا يقر بالعلاقات والأعراف ولا يضع وزنا للمشاعر، نسيجه دائما قوانين لا تعرف الرحمة، أساسها الكتمان والسرية والجرأة، ووقودها المال والنساء والشهوة..
عالم يطوي بين أجنحته الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك ويقيم نظماً ويدمر جيوشاً وأمماً ويرسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ، فمنهن من باعت الوطن والدين في سبيل حبها للآخر العميل، وأخرى اعتنقت ديانة أخرى في سبيل إرضاء حبيبها الجاسوس، ومنهن أيضا من عملت ضد وطنها وضمت أفراد عائلتها والمحيطين بها في دهاليز الجاسوسية أو خانت قدسية زواجها ووطنها في سبيل لذة جنسية مع العدو ... إنهن نساء عاشقات في بحر الجاسوسية .
المخابرات الفلسطينية والجاسوسة أمينة المفتي ...
القصة الكاملة على ملفات ....
ولدت أمينة داود المفتي في عمان عام 1939 لأسرة شركسية مسلمة، هاجرت إلى الأردن منذ سنوات طويلة، والدها تاجر مجوهرات ثري، وعمها لواء في البلاط الملكي، أما أمها فكانت سيدة مثقفة تجيد لغات عدة، وذات علاقات قوية بسيدات المجتمع الراقي. كانت أمينة أصغر أخواتها، تميزت بذكاء غير عادي وطموحا تكبيرة، وكانت على رغم تقاليد أسرتها المحافظة، تسخر من تقاليد الشرق وقيوده وتحلم بالحب والانطلاق.
عام 1957، التحقت أمينة بجامعة فيينا وأقامت في المنزل رقم 56 شارع يوهان شتراوس أسابيع عدة، قبلما يفتح القسم الداخلي أبوابه لإقامة الطالبات المغتربات.
جمعتها الحجرة بطالبة في نهائي الطب تدعى جوليا باتريك من جوهانسبرغ، ذات خبرة كبيرة بالحياة الأوروبية. علّمتها جولي التدخين وحذرتها من العلاقات مع الشباب حيث الحمل والإجهاض،وحببتها بالفتيات لتكون في مأمن، فشذّت أمينة، وتدريجياً أدمنت الفعل الخبيث حتى الثمالة، فقد رأت فيه انطلاقتها وتحررها من قيود الشرق.
جمعتها الحجرة بطالبة في نهائي الطب تدعى جوليا باتريك من جوهانسبرغ، ذات خبرة كبيرة بالحياة الأوروبية. علّمتها جولي التدخين وحذرتها من العلاقات مع الشباب حيث الحمل والإجهاض،وحببتها بالفتيات لتكون في مأمن، فشذّت أمينة، وتدريجياً أدمنت الفعل الخبيث حتى الثمالة، فقد رأت فيه انطلاقتها وتحررها من قيود الشرق.
مرت سنوات الدراسة في جامعة فيينا، وحصلت أمينة على بكالوريوس علم النفس الطبي وعادت في أغسطس (آب) 1961 إلى عمان مكرهة، تضج بالمعاندة والنفور، وتحمل في داخلها طبائع أخرى وأحاسيس مختلفة وآلام الهجرة الى القيود والرقابة.
في غمرة معاناتها وكآبتها، تذكرت حبيبها الأول، الشاب الفلسطيني «بسام»، فجابت عمان طولاً وعرضاً بحثاً عنه، وهزتها الحقيقة المرة عندما علمت بزواجه، حاصرتها الهموم، ولم تجد حلاً لأزمتها إلا السفر ثانية إلى النمسا، بدعوى استكمال دراستها العليا لنيل الدكتوره، عازمة على ألا تعود إلى الشرق أبداً .
في غمرة معاناتها وكآبتها، تذكرت حبيبها الأول، الشاب الفلسطيني «بسام»، فجابت عمان طولاً وعرضاً بحثاً عنه، وهزتها الحقيقة المرة عندما علمت بزواجه، حاصرتها الهموم، ولم تجد حلاً لأزمتها إلا السفر ثانية إلى النمسا، بدعوى استكمال دراستها العليا لنيل الدكتوره، عازمة على ألا تعود إلى الشرق أبداً .
اعتناق اليهوديّة
كان عمرها حينما عادت مرة أخرى إلى النمسا تجاوز الثالثة والعشرين، جذبتها حياة الحرية والإنطلاق في أوروبا، وسلكت مسلك فتياتها في العمل والاعتماد على النفس، غير عابئة بما كان يرسله لها والدها من مصروف شهري، فعملت بورشة صغيرة للعب الأطفال، وساقت اليها الصدفة فتاة يهودية تدعى سارة بيراد، شاركتها العمل والسكن والشذوذ، فالتصقت بها أمينة، وسرعان ما انخرطت معها في تيار الهيبيز، الذي انتشرت جماعاته في أوروبا في تلك الحقبة، وعرف في الشرق باسم «الخنافس»، وذات مرة قامت بزيارة لمنزل أسرة صديقتها اليهودية سارة، دق قلبها فجأة بقوة لم تستطع دفعها، فقد كان موشيه – شقيق سارة الأكبر – شاباً لا يقاوم، ساحر النظرات والكلام، حيوي الشباب، ذا طلعة جذابة. عرفت أمينة أنه طيار عسكري برتبة نقيب، ويكبرها بنحو سبع سنوات تقريباً، شاعري، مهووس بموتسارت وبيزيه، ولوع بالشعر الأسود ونجلاوات الشرق. فينزهة معه، عرفت بين أحضانه معنى المتعة الحقيقية، لقد كانت غبية حينما جرت وراء المتعة مع مثيلاتها، فغرقت معه في الحب، على رغم أنها مسلمة وهو يهودي، وتعددت لقاءاتهما المحرمة وتحولت أمينة بين يديه إلى امرأة لا تدخر وسعاً في إسعاده، وتغلبت على ضميرها قدر استطاعتها وهي تدعي لنفسها الحق في أن تعيش، تحيا،تجرب، وتمارس الحب بلا ندم في بلاد لا تعترف بالعذرية والعفاف .
مرت خمس سنوات في انحلال وتردٍّ، متناسية سبب مغادرتها وطنها إلى فيينا، وبعد جهد ساعدها موشيه في الحصول على شهادة دكتوراه مزورة في علم النفس المرضي، وهو فرع من علم النفس الطبي، وعادت أدراجها إلى الأردن في سبتمبر (أيلول) 1966ليستقبلها الأهل في حفاوة وفخر، ويطالبونها بإعلان موافقتها على الزواج من ابن عمها، لكنها تطلب منهم إمهالها حتى تفتتح مستشفاها الخاص في عمان.
وبينما تسير إجراءات الترخيص للمستشفى بشكلها العادي، وقع خلاف بينها وبين وكيل الوزارة المختص، فتشكوه إلى وزير الصحة الذي أبدى اهتماماً بشكواها وأمربالتحقيق فيها على وجه السرعة، فتتشكك اللجنة القانونية في تصديقات الشهادة العلمية، وتطلب منها تصديقات جديدة من فيينا، وخوفاً من انكشاف التزوير وما يصاحب ذلك من فضيحة لها ولأسرتها، سافرت أمينة إلى النمسا ناقمة على كل شيء في بلدها، وأسرعت إلى موشيه يعاودها الحنين، غير عابئة بانكسار وطنها العربي بنكسة 1967، فكانت تعلن شماتتها بلا حرج أو خجل، إذ طفحت منها الكراهية لكل ما هوعربي، وما يمت للعرب بصلة.
في جلسة خلوية تفيض بالمشاعر، فاجأها موشيه بطلب زواجه منها، فلم تتردد، لكنه أكد لها أنه يريده زواجًا رسميًا يتم في المعبد اليهودي، فلم ترفض. في معبد شيمودت، اعتنقت أمينة اليهودية، وتزوجت من موشيه زواجاً محرماً شرعاً، واستبدلت اسمها بالاسم اليهودي الجديد «آني موشيه بيراد».
في إسرائيل ...........
في صيف 1972، قرأت أمينة إعلاناً غريباً في إحدى الصحف، تطلب فيه إسرائيل متطوعين من يهود أوروبا للالتحاق بجيش "الدفاع"، مقابل مرتبات ومزايا عدة مغرية، تصورت أمينة أنها عثرت على الحل المثالي لمعاناتها، وأخذت تعد العدة لموشيه لإقناعه بالفكرة، خصوصا أنه سيحصل على جواز سفرإسرائيلي، ومسكن في إسرائيل، وأنها بمرافقته إلى هناك ستودّع الخوف إلى الأبد.
لكن موشيه الذي كان يسعى للعمل في إحدى شركات الطيران المدنية عارض الفكرة ورفضها، بدعوة أن إسرائيل والعرب في حالة حرب لن تهدأ حتى تشتعل، طالما أن هناك أرضاً محتلة وشعوباً عربية ثائرة، لكن مع إلحاحها المتواصل ليل نهار، تقدم موشيه بأوراق إلى السفارة الإسرائيلية، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1972 كانا يطيران بطائرة العال إلى إسرائيل.
حظيت أمينة، التي أصبح اسمها آني موشيه، باستقبال رائع في مطار اللد الإسرائيلي، استقبال تحير له موشيه كثيراً وظن لأول وهلة أن زوجته إما أن تكون شخصية مرموقة ومعروفة في عمان، أو أنها ممثلة إسرائيلية شهيرة.
بعد أيام قليلة، استُدعيت أمينة إلى إحدى الجهات الأمنية، حيث سئلت مئات الأسئلة عن نشأتها في الأردن، عائلتها، وظائف أقاربها ومعارفها، كيفية تعارفها وموشيه وزواجهما، فأجابت في سرد طويل. سئلت أيضاً عما تمثله إسرائيل بوجدانها، وعن مشاعرها تجاه الأردن والفلسطينيين، فأقرت بأنها تكره منظمة التحرير وكل المنظمات الفلسطينية، وأن الملك حسين أخطأ كثيراً عندما لم يقتلهم جميعاً في الأردن، فهم يكرهون – على حد تعبيرها – الأقلية الشركسية في الأردن، ضربوا بيوتها وأتلفوا ممتلكاتها، ظناً منهم أن عمها – اللواء بالبلاط الملكي – كان وراء مذابح سبتمبر أيلول) 1971، وأحد مرتكبيها.
حادث موشيه
خضع موشيه لتدريبات الاستطلاع الجوي، بعدما تقلد رتبة رائد طيار في سلاح الجو الإسرائيلي. في آخر يناير (كانون الثاني) 1973 طار بطائرته الـ «سكاي هوك» باتجاه الجبهة السورية ، فأسقطته مدفعية السوريين في أول طلعة استطلاع له واعتبر مفقوداً منذ تلك اللحظة، لأن سورية لم تعلن عن أسر الطيار الإسرائيلي كما كان يحدث، لكنها أعلنت أن الطائرة انفجرت في الجو وقائدها في داخلها.لم تصدق أمينة الخبر، ولأيام طويلة ظلت تصرخ صرخات هستيرية لا تتوقف، وفي عيادة «كوبات حوليم هستدروت» للأعصاب في ريشون لتسيون، احتبس صوتها، أو لنقل إن صدمة الفاجعة ألجمت لسانها فصمتت، وبعد شهر ونصف الشهر تكلمت، ونطقت قائلة بأنها تشكك في البيان السوري، وبأن موشيه لا يزال حياً، متخفياً بين الحشائش والمغارات، فهو طيار ماهر وقدراته عالية جداً.
في تصرف جريء، تقدمت أمينة بطلب إلى السلطات المختصة للسماح لها بالسفر إلى بيروت ودمشق لتقصي أخبار زوجها، وما هي إلا أيام قليلة حتى طارت بجواز سفرها الإسرائيلي إلى فيينا، فالتقت بأسرة موشيه الحزينة، ومكثت بينهم أيامًا عدة حاولت خلالها أن تتنسم عبير الحبيب المفقود، لكنها أحست بأن عبيره أشد كثافة ووقعاً في أطراف العاصمة، وفي الشقة التي شهدت أروع ذكرياتها، أطلقت شهقات حزنها ولوعتها وحيدة تلثم المقاعد والستائر والوسائد، وتطوف بين حجراتها تنادي موشيه وتتحسس كتبه وأسطواناته وأحذيته بصعوبة شديدة، استطاعت سارة إقناعها بأن تغادر الشقة. حملت أمينة حقائب حزنها وتوجهت إلى المطار، وبجواز سفرها الأردني طارت على أول رحلة إلى بيروت ونزلت في أحد الفنادق.
في رحلة تجوالها ، تعرفت الى سيدة لبنانية من أصل أردني تدعى خديجة زهران، تمتلك وتدير محلاً للملابس الجاهزة ، فاشترت منها ملابس بمبلغ كبير لتتقرب إليها، ودلتها خديجة على شقة صغيرة في حي عين الرمانة ،انطلقت منها للبحث عن زوجها. بعد رحلات عدة بين بيروت ودمشق، فشلت أمينة في الوصول إلى ما يطمئنها، وتأكد لديها أن موشيه قُتل لا محالة، فغادرت بيروت إلى فيينا تخنقها عبرات الأسى والغربة.
في شباك الجاسوسيّة ،،،،،،،،،،،،،،
في شقتها في فيينا، أيقظها اتصال هاتفي من تل أبيب ، وفي اليوم التالي استقبلت ثلاثة رجال عرفت منهم أنهم ضباط إسرائيليون، مهمتهم إنهاء إجراءات الإرث الخاص بها، من دون إثارة مشاكل مع أسرة زوجها أو الجهات الرسمية سواء في النمسا، أو في إسرائيل،.كان ميراثها وحدها مع التعويض يربو على النصف مليون دولار، مع الشقة الأنيقة، وضمانات حماية وأمن فوق العادة، وكان المطلوب منها أن تتعاون معهم لقاء ذلك وتنفذ ما سيُطلب منها بلا تردد، فبمقاييس المخابرات، تعد أمينة كنزا ًثميناً لا يقدر بمال ، فهي امرأة عربية فقدت وطنها وأهلها، وتعيش في وضع نفسي سيئ مليء بالخوف، ولا مأوى لها سوى في إسرائيل، وكان لا بد من استغلالها واستقطابها، بقليل من بث الكراهية في نفسها لهؤلاء العرب الذين قتلوا زوجها وقد كان يمثل لها الأمن والحماية، وبالضرورة هي بحاجة ماسة إليهما من بعده. كانت رؤيتهم على صواب، فأمينة التي تحمل الجنسية الأردنية والنمساوية والإسرائيلية، لم تكن بحاجة إلى كل هذا التخطيط والتمويه لجرّها إلى عش الجاسوسية والعمل لصالح الموساد ضد وطنها وشعبها. إنها غارقة في الضعف، اليأس،والضياع، وبعدما باعت الدين والوطن فهي لا تملك أثمن منهما لتبيعه، لم تعر للشرف انتباهاً، خلعت ثوب الشرق المحتشم وفرّطت في عقيدتها وعروبتها وعفتها، لذا لم يكن من الصعب على الضباط الثلاثة إخضاعها، مستغلين ضعفها الإنساني ووحشتها،عازفين على أوتار كراهيتها للعرب، وللفلسطينيين على وجه الخصوص. لاتقر الجاسوسية في عرف أجهزة المخابرات بمبدأ الرحمة، ولا تستجيب بأية حال لنداءات الضمير، إنه عالم يفتقد العواطف، ولا وجود للمشاعر تحت سمائه. هكذا سقطت أمينة في مصيدة الجاسوسية وأسلمت مقودها للضباط الثلاثة، الذين أقاموا لها دورة تدريبية مكثفة استغرقت شهراً وأربعة أيام في شقتها في فيينا، تعلمت أثناءها أساليب التجسس المختلفة من تصوير، تشفير، التقاط أخبار، كيفية الالتزام بالحس الأمني، والتمييز بين الأسلحة.
دربوها أيضاً على كيفية تحميض الأفلام، الهرب من المراقبة، واستخدام المسدس، واستقدموا لها من إسرائيل خبيراً في تقوية الذاكرة وتخزين المعلومات والأرقام من دون نسيانها. كانوا يعرضون عليها مشهداً من فيلم سينمائي، ويطلبون منها الإجابة عن أمور دقيقة فيه مثل: كم طبق كان على المائدة؟ ما لون ستائر الشباك؟ كم لمبة في النجفة؟ كم عدد درجات السلم؟ أجادت آني موشيه دورتها الأولى في التجسس وأصبحت أكثر إصراراً على الانتقام والتحدي، وعمل المستحيل للثأر لزوجها الذي فُقد بالقرب من الجولان والجنوب اللبناني، إنها تريد تأكيد حبها لموشيه، من خلال حبها للعمل مع إسرائيل ضد العرب.
غادرت أمينة فيينا إلى بيروت هذه المرة، لا للبحث عن زوجها، وإنما للانتقام له ، مهمتها المحددة تقصّي أخبار رجال المنظمات الفلسطينية ورجال المقاومة الذين يؤرقون أمن إسرائيل ويحيلون ليلها إلى نهار لشدة القصف والتفجيرات الفدائية، كانت أيضاً مكلّفة بالتحري عن مراكز إقامة قادة المقاومة والطرق التي يسلكها الفدائيون للتسلل إلى الأرض المحتلة والتغلغل داخلهم لمعرفة أعداد الفدائيين، تدريبهم، تسليحهم ومدى مهارتهم في التخفي والمناورة، ومخازن الأسلحة والإعاشة .
يتبع في ملف 2
إضاءات على ملفات عن الجواسيس مع العدوالإسرائيل
أمينة المفتي… الأرستقراطيّة التي أدمنت الخيانة ........
مصيدة الجسد .......
ملف2
في بيروت، استأجرت أمينة أو «آني موشيه» شقة في إحدى بنايات الروشة، أجمل مناطق بيروت، ومن شرفة شقتها كان أمامها البحر اللانهائي، وعلى بعد خطوات منها يقع مقهى الدولشي فيتا ،أشهر مقاهي بيروت، حيث المكان المفضّل للفنانين والمثقفين والجواسيس والسياح. كان الأمر الوحيد الذي يضايقها، انقطاع الحرارة عن الهاتف، فقصدت صديقتها الأردنية خديجة زهران، وطلبت منها المساعدة. اتصلت خديجة في الحال بمانويل عساف موظف التلفونات ، الذي ذهب بنفسه إلى أمينة في اليوم التالي، ليؤكد لها أن المنطقة تعاني من بعض الأعطال بسبب تجديدات في الشبكة، ووعدها بأنه سيسعى في القريب للتوصل إلى حل. منحته أمينة خمسين ليرة ليهتم بالأمر، ولكي لا ينسى منحته جسدها أيضاً، إذ وجدت فيه صيداً سهلاً تستطيع من خلاله التوصل لهواتف وعناوين القادة الفلسطينيين، فهي باعت سابقا الدين والوطن والأهل، فلم تجد غضاضة في بيع نفسها لمانويل، الذي خرمستسلماً أمام امرأة جميلة تفوح من جسدها رائحة الأنوثة والرغبة، لقد شلت إرادته وأذهبت عقله وحاصرته، فلم يعد يملك حيلة للفرار. أقبل عليها في شراهة ونهم، باعتقاده أنه ظفر بأنثى جميلة، بينما تصرفت هي كجاسوسة محترفة، بدت بين أحضانه في أقصى حالات الضعف، لكنها كانت أبعد ما تكون عن الإحساس بالمتعة، وهكذا تفعل النساء في عالم المخابرات والجاسوسية، فالجنس عندهن وسيلة فحسب لاهدف صُدمت أمينة بشدة عندما تبين لها أن مانويل لا يملك ما تريده، فهو مجرد فني صغير لا يملك قراراً، فلم يتملكها الإحساس بالندم أو الحسرة، بل أقنعت نفسها بأنها فشلت في تجربة أولى، وحتماً ستنجح في مرات مقبلة. حاول مانويل عساف الوفاء بوعده لتتوطد علاقته بالمرأة النارية، فلم يستطع لأن رئيسه في العمل – مارون الحايك – بيده كل شيء ، لذلك صارحه بما حدث، واصطحبه إلى شقة أمينة. كان الحايك متعدد العلاقات النسائية، يسعى خلف نزواته ومغامراته، منشغل بالتجسس على المحادثات الهاتفية بين نساء المدينة، تستهويه لعبة المطاردة والبحث عن صيد جديد، وبغريزة الأنثى التي لا تخيب، أيقنت أمينة ما بنفسه، واثقة من كنزمعلوماته عن الزعماء الفلسطينيين في بيروت، لذلك تركت جسدها له ينهش، وأحاطت عقله بسياج من غباء، فكان يجيب عن كل أسئلتها، وأطلعها – بعد لقاءات عدة – على التلفونات السرية للمنظمات الفلسطينية، وزعماء الجبهات وعناوين إقامتهم في حي الريحانة الشهير. بواسطة صندوق بريد ميت، صبت أمينة كل ما تفوه به الحايك في خطاب من صفحات عدة، تسلمه عملاء الموساد في بيروت، لتجيئها الأوامر بعد ذلك بالتحرك من دون انتظار، فالمطلوب منها هو الحصول على القوائم السرية لرجال المخابرات الفلسطينية في أوروبا وصفاتهم، ولن يتاح لها ذلك إلا من خلال مكتب ياسر عرفات شخصياً، أو مكتب رئيس جهاز المخابرات علي حسن سلامة المطارد في كل مكان في العالم،والذي أطلقت عليه غولدا مائير لقب «الأمير الأحمر»،
علي حسن سلامة
كانت الحياة في بيروت آنذاك يونيو (حزيران) 1973) لها مذاق رائع، ومع عطلة نهاية الأسبوع تزهو أجمل فتيات لبنان داخل الفنادق والأندية، وحمامات السباحة، يلعبن الغولف والتنس، ويرقصن الديسكو، ويشاركن في مسابقات الجمال. وسط هذا الجو الذى يموج بالمرح والحسن والشباب، اعتاد علي حسن سلامة أن يعيش بعض أوقاته، يرافقه أحياناً فتحي عرفات، شقيق ياسرعرفات، رئيس جمعية الهلال الأحمرالفلسطيني.
عندما اختيرت جورجينا رزق ملكة جمال الكون، اختطفها سلامة وتزوجا في حدث كان له صدى كبير، مما جعله مطاردا دائماً من فتيات لبنان، لكنه كان مشبعاً بكل جمال الدنيا بين يديه، ولأن المخابرات الإسرائيلية كانت تجهل صورته أوملامحه، وفشلت كثيراً في اقتفاء أثره لاغتياله، خصوصا بعد عملية ميونيخ بالذات، فقد كان المطلوب من أمينة التسلل إلى مخبئه والحصول على قوائم بأسماء قيادات وعملاء المخابرات الفلسطينية في أوروبا. كان سلامة أحد مساعدي عرفات والمختص بحراسته، ثم أوكل إليه الاخير بمهمة جديدة ، وهي رئيس الأمن والمخابرات التابعة لمنظمة فتح وقوات الحرس الداخلي – التي يطلق عليها القوة 17 – وهي القوة التي أطلق عليها عرفات اسم «المنتمين إلى قيصر روما القديمة»، والحصول على القوائم السرية للقيادات الفلسطينية والأعضاء البارزين في المنظمات في أوروبا، أمر مهم جداً ومطلوب لتفكيك أوصال القيادة في بيروت وعزلها عن الآخرين في كل قارات العالم، وفي هذا إجابة عن سؤال: لماذا السطو على أوراقه بدلاً من اغتياله؟
هكذا كانت مهمة أمينة في بيروت، مهمة حساسة للغاية، لو استطاعت القيام بها فكل ميادين إسرائيل لا تكفي لوضع تماثيل لها فيها، وفي لقاء حميم بشقتها مع الحايك، سألته عن عرفات وأبو إياد وغيرهما، فأجاب بأنه يعرفهم جيداً،ولأيام طويلة ظلت تمنحه جسدها، وتنفق عليه بسخاء عندما أكد لها أنه يعرف سلامة، والفندق الذي يرتاده، فاصطحبته مراراً لفندق كورال بيتش ليدلّها عليه، لكن الأيام تمر والحايك يستمتع بجسدها وبأموالها من دون أن يظهر لسلامة أثر.
تملّكها يأس قاتم لفشلها، وفكرت كثيراً في مغادرة بيروت إلى تل أبيب تجر أذيال الخيبة، لكن طرأت في خيالها فكرة جديدة عملت على تنفيذها بأسرع وقت، إذ انتقلت إلى شقة أخرى في كورنيش المزرعة، وهي منطقة شعبية يرتادها التجار من قاطني المخيمات الفلسطينية في بيروت. للوهلة الأولى أحست بتفاؤل كبير، بعدما تعرفت الى ممرضة فلسطينية تدعى شميسة، تعمل في عيادة «صامد» بمخيم صبرا. قدمتها شميسة إلى مدير العيادة، الذي أوضح لها أن أطباء كثرا من كل دول العالم، يشاركون في علاج الفلسطينيين كمتطوعين، فعرضت عليه أمينة خدماتها التطوعية وأطلعته على شهاداتها المزورة فطلب منها الانتظار لأيام عدة حتى يخبر رؤساءه. جاءتها أخيراالفرصة الذهبية للامتزاج بالفلسطينيين، وبدأت مرحلة العمل التجسسي الأوسع.
لقاء مع جاسوس الميج ،،،
حدث أن كانت في مقهى «الدولشي فيتا»، حيث شاطئ الروشة المتعرّج الخيالي،حينما توقفت فجأة أمامه سيارة جيب عسكرية، ونزل منها ثلاثة رجال فلسطينيين، اتجهوا مسرعين إلى حيث تجلس تشرب أمينة القهوة، واصطحبوها إلى مخيم شاتيلا للمساعدة في علاج مصابي إحدى الغارات الإسرائيلية. بعد أن أنهت عملها في مستشفى مخيم شاتيلا، استأذنت للسفر إلى فيينا لتسجيل اسمها لدى إحدى جمعيات الطفولة الدولية (!!)، وهناك تخلت أمينة عن أهم قواعد العمل التجسسي، وهي السرية المطلقة ، وتفاخرت أمامهم جميعاً بأنها تثأر لموشيه كل يوم من القتلة العرب وتنتقم منهم دونما رحمة أو شفقة، وقصّت عليهم الكثير من أسرار عملياتها في بيروت، وبجواز سفرها الإسرائيلي، طارت أمينة إلى تل أبيب تحمل جرعة هائلة من الغضب.
لم يكن لها أصدقاء في إسرائيل، سوى نفر قليل من رجال الموساد، الذين فوجئوا بها وقد بدا عليها الإرهاق، طلبوا منها أن تستريح في شقتها حتى تهدأ. صاحبتها طبيبة نفسية يهودية من أصل عراقي تدعى زهيرة، كانت مهمة الاخيرة ألا تفاتحها في أمرإنهاء خدمتها، فهي ليست منوطة بذلك، ولكن تنحصر في إذابة جدران العزلة النفسية التي تحيط بالعميلة، بدمجها تدريجياً باليهود العرب وخلق محيط اجتماعي موسّع من حولها، لقد حدثتها صديقتها الجديدة عن المهاجرين العرب من اليهود، الذين قدموا من شتى الأقطار المجاورة، وكيف استساغوا العيش في المجتمع الجديد المتحرر، وعن بعض المسيحيين الذين فروا إلى إسرائيل طلباً للحرية والأمن. من بين الذين ذكرتهم ، النقيب الطيار منير رضا المسيحي العراقي الذي فر الى إسرائيل بطائرته الحربية الميجـ 21، وعندما أبدت أمينة رغبتها في لقائه، عرضت زهيرة الأمر على رؤسائها فجاءتها الموافقة، ورتِّب اللقاء في منزل منير بين زوجته وأولاده.
كانت أمينة في شوق بالغ للقاء الطيار الهارب، ليس لأنه عربي بل لتسأله عما يجول في خاطرها من تساؤلات قد تفيدها معرفة إجاباتها، وبابتسامة عريضة على باب منزلهما، رحب منير وزوجته بأمينة. كان منير في ذلك الوقت في الثامنة والثلاثين من عمره، غزته مقدمات الصلع، وكانت مظاهر الثراء بادية جداً على المنزل وأهله، قال لها منيرإنه مر بحياة عصيبة في البداية، حيث كان يجهل العبرية وبلا عمل ولا أصدقاء، ويتابعه كظله رجلا أمن في الشارع والبيت، ثم عمل لبعض الوقت في جيش الدفاع، والآن يمتلك وكالة إعلانية كبيرة خاصة به اسمها الأضواء، وتعمل معه زوجته كمديرة لمكتبه وللعلاقات العامة.
سألته أمينة : كيف يفشل طيار محترف في القفز إذا أصيبت طائرته في الجو؟ وهل طائرة سكاي هوك الأميركية تتحول إلى مقبرة لقائدها قبل ما تسقط؟ أفاض منير في الشروح وأوضح لها أن طائرة سكاي هوك التي طار بها موشيه اعتُمد تصميمها على حماية الطيار، وهي مزودة بكرسي قذف مزدوج، ويمكن إطلاقه من ارتفاع الصفر وبسرعة الصفر أيضاً، وهو كرسي قاذف من طراز دو غلاس أسكاباك A -C3 وكابينة القيادة فيها مدرعة في المقدمة والمؤخرة والجانب الأيسر، وسمك التدريع حوالي 18 مم، وأكد لها أن زوجها موشيه إما أصيبت طائرته بصاروخ «سام 6»، وفي تلك الحالة ربما يكون أسيراً لدى السوريين، أو أن صاروخاً من طراز atoll جو / جو، أصاب به السوريون كابينة قيادته الفقاعية فانفجرت به الطائرة جوًا. كانت إجابة منير لا تختلف عن الإجابة التي سمعتها من قبل، فلم يعطها إجابة قطعية تؤكد أو تنفي موت موشيه، وبقي السؤال كما هو: هل موشيه بيراد لا يزال حياً في قبضة السوريين؟ أم انفجرت به الطائرة في الجو؟ وفي الحالة الأخيرة لا بد من أن يعثر السوريون على بعض من أشلائه، ومن ثم يعلنون الخبر، وهو ما لم يحدث.
إصرار على الخيانة،،،
في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 غادرت أمينة تل أبيب إلى فيينا، حيث تسلم منها عميل الموساد جواز سفرها الإسرائيلي، وسلمهاالجواز الأردني مع تذكرة سفر إلى بيروت فجر اليوم التالي. انطلقت بشوق للعمل كي تثأر لزوجها، تحمل بين أمتعتها جهاز راديو يحمل ماركة عالمية معروفة، وهو في حقيقته جهاز لاسلكي أكثر تطوراً ولا يمكن اكتشافه، وبحقيبة يدها كانت تحتفظ بالمصحف الشريف، وقد نزعت صفحات عدة منه واستبدلتها بصفحات أخرى تحمل الشفرة (!!!)في الساعات الأولى من صباح 6 أكتوبر(تشرين الأول) 1973، أطلقت أمينة أولى إشارات البث اللاسلكي إلى تل أبيب: (آر. كيو. آر. وصلت بسلام..الأميرالأحمر في أوروبا.. تعرفت بضابط فلسطيني يدعى أبو ناصر.. وعدني مارون بأن يأخذني معه إلى مبنى الهاتف المركزي.. غادر جورج حبش إلى تونس سراً.. رجاله يقاتلون سبعة من رجال حواتمة.. أبو عمار بالبيت مصاباً بالبرد.. شحنة أدوية وصلت سراً من رومانيا للقيادة.. يوجد نقص كبير في الأنتي بيوتكس. تحياتي). استقبل الموساد رسالة أمينة بشيء من الاطمئنان والفرح، فالرسالة كانت واضحة الشفرة بلا أخطاء، والأخبار التي حوتها مهمة جداً استدعت دخولها إلى غرفة التحليل والمتابعة على الفور، وسرعان ما تسلمت أمينة أول رسالة بثت إليها من إسرائيل: (تهانينا بالوصول.. اهتمي بتحركات الأمير.. أبو ناصر خبيث جداً فاحذريه.. لا تهتمي بمارون الآن.. من يطبب أبو عمار.. ماذا في بطن الباخرة كيفين في صيدا.. نريد معلومات عن مخازن الأسلحة في مخيم البداوي في طرابلس ومراكز التدريب الجديدة في قلعة شقيف). بينما كانت العميلة تهيىء نفسها لمستقبل أجمل وأيام حافلة بالعمل والخيانة، فوجئت بأخبار عبور المصريين لقناة السويس واجتيازهم خط بارليف، فكانت صدمتها لا توصف.
نشطت أمينة في عملها التطوعي كطبيبة عربية تجوب أنحاء لبنان، وجاسوسة إسرائيلية تمد الموساد بالمعلومات الحيوية عن تحركات الفدائيين في الجنوب، الذين شحنتهم انتصارات الجيوش العربية فازدادوا استبسالاً وضراوة، وعاد علي حسن سلامة من أوروبا لترتيب خطط العمليات الجديدة ، فالعدو فقد اتزانه والسيطرة على نفسه، والضربات القوية تترك آثارها بوضوح في وجهه المشوه. هكذ انطلق رجال المقاومة في الجنوب اللبناني يضربون في العمق الإسرائيلي بلا كلل، واستدعى ذلك من أمينة أن تترك بيروت إلى صور، ومعها جهاز اللاسلكي الخطير، حيث عكفت على بث رسائلها يومياً، والتي وصلت في أحيان كثيرة إلى خمس رسائل معرِّضة حياتها للخطر، واضطر الموساد أمام سيل رسائلها إلى فتح جهاز الاستقبال على التردد المتفق عليه، لساعات طويلة على مدار اليوم.
يتبع في الحلقة 3
====================
إضاءات على ملفات عن الجواسيس مع العدوالإسرائيل
أمينة المفتي… الأرستقراطيّة التي أدمنت الخيانة ........
الحلقة 3
اليد الخائنة ،،،
على مدى أيام المعارك خلال حرب أكتوبر، كانت أمينة تتحرك فتسعف الجرحى بيد، وتبث رسائلها الخائنة باليد الأخرى، وكانت أول جاسوس للموساد يعمل بجرأة أسطورية داخل بلد عربي، لم يفعلها إيلي كوهين الذي زُرع في سورية قبلها بسنوات قليلة، وكان مرشحاً لمنصب نائب رئيس الجمهورية السورية، وعلى رغم تجواله بين شتى الوحدات العسكرية والقواعد السرية في الجولان، وإقامته المطولة في منطقة الجبهة، بل وعلى رغم حجم الثقة في نفسه، لم يحمل أبداً جهازاللاسلكي خارج المنزل.
انتهت حرب أكتوبر، لكن العمليات الفدائية الفلسطينية لم تنته، وازدادت شراسة واتسعت مساحتها لتشمل دولا أوروبية وآسيوية. كانت الضغوط شديدة جداً على أمينة خلال تلك الفترة، فالعمليات أربكت إسرائيل وزعزعت أمنها تماماً، وانتقل الضغط العصبي إلى أمينة في بيروت، فالأوامر كثيرة والمطلوب منها كثير ويفوق الوصف، لذلك اضطرت للانتقال تماماً إلى الجنوب للبناني، واستأجرت شقة في منطقة الشجرة في صور – على مسافة عشرين كيلومتراً من الحدود الإسرائيلية – اتخذت منها مركز انطلاق لاستكشاف تحركات الفلسطينيين، واتصلت بأبو ناصر الضابط الفلسطيني الذي سبق أن حذرها الموساد منه في أولى رسائل البث اللاسلكية، واستخدمت معه أسلوب الإثارة والاستفزاز، وهوأسلوب يدفع المرء الى إخراج ما عنده من دون أن يطلب منه ذلك ، واستطاعت أن تدفعه دفعاً الى الإفصاح عن عملية فدائية ستتم في اليوم التالي داخل الأراضي الإسرائيلية ، تصنعت الفرح وهللت: كيف؟.. إنكم لشجعان حقاً عندما تنقلون عملياتكم إلى قلب الدولة اليهودية ، لكن في ذلك خطراً جسيماً على رجالكم، أجابها مزهواً بأن كل شيء معد، وخطِّط لكل احتمالات الطقس بدقة متناهية. حاولت أن تعرف مكان الهجوم وكيفية التسلل، لكن الضابط الفلسطيني الحذر لم يتفوه بأكثر من ذلك.
ظلت أمينة تطارد أبو ناصر مستخدمة أسلوبها في الإثارة إلى أن نجحت في دعوته لقضاء سهرة في بيتها، فهيأت له نفسها، حتى إذا ما تمكنت منه انطلق لسانه متباهياً بعبقريته العسكرية، وكيف أنه جهز فريقاً من أكفأ رجال الكوماندوز للتسلل إلى داخل الحدود الإسرائيلية، لضرب مدينة نهاريا الساحلية بالصواريخ، التقطت أمينة الخبر من دون تعليق، وكل ما فكرت فيه لحظتها هو كيف تحتويه أكثر وأكثرفيزداد انطلاقاً وتتبعثر منه الأسرار كالشلال ، ولم يكن أمامها إلا أن تمثل دورالعشيقة القلقة، واستحضار نبرة الدفء المصطنعة والمشوبة بالخوف، لكنه على رغم غرقه في بحر المتعة معها لم تنفك عقد انطلاقه كلها فيعلن عن عملياته المرتقبة بالتفصيل، هكذا تعلم أبو ناصر وتدرب في المخابرات العسكرية، وأجاد الاحتماء بالحس الأمني العالي حتى في أقصى حالات ضعفه الإنساني.
= في مبنى الموساد كانت الوجوه مرهقة متوترة، فالعمليات الفدائية اشتدت وطأتها والمعلومات المتاحة بعيدة عن التفاصيل، ومنذ صدرت الأوامر لأمينة باستدراج أبو ناصر بحرص، كانت رسائلها تجيء مشوهة، كأنما يتعمد الضابط الفلسطيني ذلك، وهو ما يعني أن العميلة وقعت في بؤرة الشك ، أو أنها انكشفت فعلاً، فخبر التسلل الأخير عبر البحركان حقيقياً من حيث التوقيت لا المكان ، أما خبر عملية تل أبيب فكان أكثرشكاً وغموضاً، فصدرت الأوامر لأمينة بمغادرة صور إلى بيروت فوراً، والتوقف نهائياً عن جلب المعلومات أو بث الرسائل ، لكن العميلة الغاضبة العنيدة بثت رسالة إليهم قلبت الموازين كلها، وأذهبت بعقول الكبار قبل الصغار في الموساد. أرسلت لهم عن تسلل سبعة فدائيين في غبش الفجر، يحملون أسلحة الـ آر.بي.جي، ومدافع الكلاشينكوف القاذفة، وقنابل ومتفجرات، بقصد تفجير مستعمرة جيشر هازيف (على بعد ستة كيلومترات شمالي نهاريا) بمناسبة عيد إسرائيل القومي، فانطلقت قوات الأمن تطوّق المستعمرة ، وانتشرت نقاط التفتيش على كل الطرق، ومع أولى تباشير 15 مايو (أيار) 1974، كانت المعركة الشرسة بدأت، لكن في منطقة أخرى أبعد عن تصوّرهم وتوقّعهم. بعد ست ساعات ونصف الساعة، أسفرت المعركة عن إصابة كبير من الجنود الإسرائيلياً بين قتيلاً وجريح . لم تنصت أمينة لأوامر رؤسائها في الموساد بالتوقف – موقتاً – عن العمل، فما كان ذلك إلا لحمايتها ، لكنها كانت ككتلة الثلج التي ذاب ما حولها، فهوت مندفعة لا يجرؤ إنسان على إيقافها أو التصدي لها، كانت تحمل روحها على كفها، ولا تهتم بالخطر أو تحسب له حساباً، وفي لحظة استجمعت جرأتها وطلبت من مارون الحايك أن يزورها في شقتها في بيروت ، فأسرع إليها يمنّي نفسه بليلة ساخنة، لكنه ما إن دلف إلى الصالون، حتى وقف مذهولاً، وقد تجمدت الدماء في عروقه وتعلقت عيناه الجاحظتان بنجمة داوود الزرقاء على الحائط.
المصارحة ...
صارحت أمينة، الحايك بكل شيء، وأنها عميلة للموساد، وأنه شريكها، وأطلعته على صور فاضحة تجمعهما، وأسمعته صوته وهو يمليها أرقام تلفونات رجال المقاومة، وانتهت الجلسة بأن وقّّع على إقرار بالتعاون مع الموساد، وطلبت منه أن تدخل الى غرفة السنترال المركزي لتستمع بنفسها للمكالمات بين القادة الفلسطينيين، وهو مطلوب منه أن يفعل ذلك ويعلم بمواعيد العمليات الفدائية وأماكنها داخل إسرائيل. أسفرت تلك العملية عن فائدة عظيمة لإسرائيل، فالتجسس المستمر على مكالمات القادة وزعماء الجبهات الفلسطينية، كشف نواياهم تجاه الدولة العبرية، وخططهم الفدائية للضرب داخل الأراضي المحتلة، ولم تكن الأحاديث الهاتفية مكشوفة تماماً، يستطيع المتنصت عليها إدراك مضامينها بسهولة، إنما اعتمدت على أسلوب التمويه والشفرة الكلامية التي تتطلب مهارة عبقرية لفهمها، لكن زعماء الجبهات أحياناً كثيرة ينسون أنفسهم ويتحدثون علانية فيما بينهم صراحة، أو مع مساعديهم ظناً منهم – وهذا خطأ كبير – أن التجسس على محادثاتهم أمر مستحيل من قبل اللبنانيين، فالدوائر الهاتفية المغلقة كانت محددة بكل منظمة، والاتصال بالمنظمات الأخرى في بيروت نفسها يتم بواسطة خطوط شبكة المدينة، وكذلك الاتصال بخارج المدينة. كانت السرية خاضعة للخدش عن طريق زرع أجهزة التنصت، أو استراق السمع بأسلوب الحايك، من خلال الغرفة السرية التي أقامتها الميليشيا المسيحية في لبنان للتجسس على المسلمين، وعلى الفلسطينيين أيضاً الذين اتخذوا من حي الفكهاني مقراً لهم، فكان بمثابة عاصمة فلسطينية وسط بيروت وجنوبها.
اتصل الحايك بأمينة قبل فجر 23 مايو (أيار) 1974، ففتحت على الفور جهاز اللاسلكي، وبثت إلى الموساد رسالتها الخطيرة: (آر. كيو. آر. بعد 37دقيقة من الآن – سيهاجم ثمانية من الفدائيين المتسللين مستعمرة زرعيت.. تسليحهم رشاشات كلاشن وقنابل 57 ملم.. شالوم) وبالفعل صدقت المعلومة تماماً، وأطبق الإسرائيليون على الفدائيين الثمانية، فقتلوا ستة منهم وأسروا اثنين. عندما كانت أمينة تتجسس بنفسها على مكالمات القادة الفلسطينيين، اقتحمت الخط السري الخاص بمكتب جورج حبش، ولاحظت بعد مكالمات عدة له، أن هناك ترتيبات عسكرية تُعد بشكل سري، وفي 27 يونيو (حزيران)1974 لقي ثلاثة فدائيين آخرين مصرعهم، بعدما قتلوا أربعة من الجنود الإسرائيليين في نهاريا… هكذا كانت أخبار العمليات الفدائية تصل أولا بأول إلى إسرائيل ويتم التعامل معها قبل أن تتم.
الخطأ القاتل
انشغلت أمينة بشكل لم يسبق له مثيل في عمليات التنصت على هواتف القيادات الفلسطينية، بل إنها استطاعت تجنيد صديقتها خديجة زهران، وكانت مقدمات للحرب الأهلية اللبنانية بدأت وغطت على كل شيء، وأصبح مقاتلو أيلول الاسود يكرسون جهودهم لمهام أخرى،وعندما طلبت أمينة الإذن بمغادرة بيروت إلى تل أبيب، أعيد تذكيرها بإيجاد فرصة مناسبة لدخول شقة سلامة، ومحاولة الحصول على القوائم السرية لرجال مخابراته في أوروبا، وخطط العمليات المستقبلية المطروحة. انتهزت أمينة فرصة لقائها بسلامة في الكورال بيتش كالمعتاد، وسألته في خطأ فادح وقاتل عن أولاده ، فدهش الرجل الذي لم يحدثها عنهم من قبل مطلقاً، وبحاسته الأمنية العالية ملأه الشك تجاهها ، وقرر البحث عن ماضيها وطلب من رجاله في عمان إعادة موافاته ببيانات عن الطبيبة الأردنية أمينة داود المفتي، التي يعيش أهلها بحي صويلح، أرقى أحياء عمان وأروعها ، فجاءه الرد بأنها بالفعل طبيبة أردنية، غادرت وطنها إلى النمسا للدراسة، ولمشاحنات مع أهلها قررت ألا تعيش في عمان، فاطمأن سلامة لتحريات رجاله وتجددت ثقته بأمينة.
انشغلت أمينة بشكل لم يسبق له مثيل في عمليات التنصت على هواتف القيادات الفلسطينية، بل إنها استطاعت تجنيد صديقتها خديجة زهران، وكانت مقدمات للحرب الأهلية اللبنانية بدأت وغطت على كل شيء، وأصبح مقاتلو أيلول الاسود يكرسون جهودهم لمهام أخرى،وعندما طلبت أمينة الإذن بمغادرة بيروت إلى تل أبيب، أعيد تذكيرها بإيجاد فرصة مناسبة لدخول شقة سلامة، ومحاولة الحصول على القوائم السرية لرجال مخابراته في أوروبا، وخطط العمليات المستقبلية المطروحة. انتهزت أمينة فرصة لقائها بسلامة في الكورال بيتش كالمعتاد، وسألته في خطأ فادح وقاتل عن أولاده ، فدهش الرجل الذي لم يحدثها عنهم من قبل مطلقاً، وبحاسته الأمنية العالية ملأه الشك تجاهها ، وقرر البحث عن ماضيها وطلب من رجاله في عمان إعادة موافاته ببيانات عن الطبيبة الأردنية أمينة داود المفتي، التي يعيش أهلها بحي صويلح، أرقى أحياء عمان وأروعها ، فجاءه الرد بأنها بالفعل طبيبة أردنية، غادرت وطنها إلى النمسا للدراسة، ولمشاحنات مع أهلها قررت ألا تعيش في عمان، فاطمأن سلامة لتحريات رجاله وتجددت ثقته بأمينة.
لكن بلاغاً سرياً من أوروبا وصل إلى مكتب المخابرات، قلب الأمور كلها رأساً على عقب. أفاد البلاغ أن شاباً فلسطينياً في فرانكفورت ، صرح لأحد المصادر السرية بأنه تقابل مع أحد الفلسطينيين في فيينا ، وبعد لقاءات عدة بينهما في مقاهي المدينة ، أخبره بأن له صديقة نمساوية يهودية ، ماتت إثر تعاطيها جرعة زائدة من عقار مخدر، تزوج شقيقها الطيار من فتاة عربية مسلمة، وهربت معه إلى إسرائيل خوفاً من اكتشاف أمرها وملاحقة أجهزة المخابرات العربية لها، وأن الفتاة كانت تدرس الطب في النمسا، وانتقلت إلى لبنان بعدما أسقط السوريون طائرة زوجها ، الذي اعتبر مفقوداً.
كان البلاغ يحمل نبرة عالية من الشك، فلو أن الأمر صحيح فهناك جاسوسة عربية بين الفلسطينيين. طلب سلامة إعادة استجواب الشاب في فرانكفورت، ولو اضطروا لأخذه إلى النمسا ليدلّهم على الفلسطيني الآخر، وذيّل أوامره بضرورة السرعة، وإلى حين تصله معلومات أخرى، طلب حصر كل الطبيبات العربيات المتطوعات في المستشفيات الفلسطينية واللبنانية أيضاً. كان سلامة شاباً خارق الذكاء، شاهد بنفسه مقتل والده بيد اليهود وهو في الخامسة عشرة من عمره ، وعاش مثل آلاف الفلسطينيين في مخيم بائس يفتقر إلى المياه والكهرباء، وفي نابلس أكمل تعليمه وكان دائماً من المتفوقين، وبعدما حصل على الثانوية العامة بتفوق، حصل على منحة للدراسة بالجامعة الأميركية في بيروت، التي كانت مجتمعاً لكبارالمثقفين الفلسطينيين، وتخرج في الجامعة مهندساً ليلتقي بياسر عرفات .
استغل سلامة ذكاءه الشديد في تعقّب الخونة والجواسيس الذين يُزرعون بين صفوف المقاومة ، وتمكّن من كشف عشرين منهم خلال فترة وجيزة، وحصل على دورات تدريبية على أيدي رجال المخابرات المصرية، وعشق مطاردة عملاء الموساد أينما كانوا، وأفلت مرات ومرات من محاولات فاشلة لاغتياله، وبعدما جاءه البلاغ عن وجود طبيبة عربية متطوّعة تعمل لصالح الموساد في بيروت، كانت أمامه بعد ثلاثة أيام قائمة طويلة تضم أسماء 37 طبيبة، أربعة منهن فحسب حصلن على شهاداتهن العلمية من جامعات النمسا، وكن جميعاً آنسات إحداهن بالطبع كانت أمينة داود المفتي.
الرسالةالأخيرة
والى أن يصل التقرير الحاسم من أوروبا، أمر سلامة بوضع الممرضات الأربع تحت المراقبة الصارمة طوال الأربع والعشرين ساعة ، كان السباق محموماً للوصول إلى الحقيقة بأسرع ما يمكن ، وبينما الطقس مشحون بالشكوك والترقب ، أحست أمينة بعيني الجاسوسة المدربة ، بأن هناك عيوناً ترصدها، ولا تترك لها مساحة من الحرية لتتحرك بيسر كما اعتادت دائماً ، وأول ما فكرت فيه هو التخلص من جهازاللاسلكي، دليل الإدانة الذي سيقدمها إلى حبل المشنقة، فبثت رسالتها الأخيرة إلى الموساد: (آر. كيو. أر. هناك من يراقبني ليل نهار منذ الأمس.. أنا خائفة ومرتبكة.. سأموت رعباً.. أفيدوني.. شالوم)، وبعد أقل من نصف الساعة جاءهاالرد يقول: (ضعي الجهاز بسلة قمامة الشقة العلوية.. احرقي الشفرة.. غادري بيروت بهدوء إلى دمشق بطريق البر.. ستجدين رسالة بمقهى الشام)، تنفست أمينة الصعداء، وشرعت فوراً في تنفيذ أوامر رؤسائها.
تابع ملف 4
إرسال تعليق