الموت الراقد ،،، في ”جمعيات الموساد "
ولدت إيريكا لأسرة يهودية في فبراير 1948 Portsmoth أقصى جنوب إنكلترا، ثم انتقلت مع والدتها للإقامة في لندن حيث واصلت تعليمها حتى التحقت بالجامعة ونالت البكالوريوس في النبات والجغرافيا. كانت قد قرأت كيهودية عن إسرائيل والتاريخ اليهودي لكنها لم تكن ذات دوافع سياسية أو اتجاهات محددة. انصب أملها في إكمال دراستها العالية والحصول إلى الدكتوراه؛ لذا سافرت إلى أوستراليا لدراسة جغرافيتها الجافة، وسرعان ما حصلت على فرصة لإكمال أبحاثها الجامعية في الجامعة العبرية بالقدس، فغادرت أوستراليا إلى إسرائيل في أغسطس 1972، وسط ضجيج إعلامي دولي عن دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ،
تصيدها عملاء الموساد وعملوا على تنشيط الحس الديني لديها ، واختيرت مدينة فسبادن الالمانية Wiesbaden لإقامة إيريكا ماريا تشامبرز، قبل انطلاقها إلى بيروت، وقد اختيرت فسبادن بالذات لموقعها الاستراتيجي في مثلث هام يضم مدن فرانكفورت وبون ودارمستات Darmstat ومانهايم. وهي المدن التي يفضلها العرب للإقامة في ألمانية الغربية، ومن ضمنهم المئات من الفلسطينيين بعضهم يدرس، وبعضهم يعمل، ويتردد على هذه المدن أيضًا قيادات فلسطينية هامة، قد يصادف أن يكون علي حسن سلامة من بينهم، في إحدى رحلاته البالغة السرية لأوروبا.
وسط هذا المثلث ومزيجه البشري المتباين الوجوه والجنسيات، تواجدت إيريكا تشامبرز كطالبة أوروبية تدرس الفلسفة بجامعة فرانكفورت القريبة، وتستأجر شقة صغيرة من حجرة واحدة وصالة يقتطع المطبخ ركنًا منها. هذا إضافة إلى حساب بنكي في بنك (درسدن) يضاف إليه راتبه الشهري في الموساد، ورخصة قيادة جديدة استخرجتها من فسبادن بعدما ادعت فقدانها لرخصتها الدولية.
بتكليف بحثت عميلة الموساد بحثت عن مكاتب منظمات رعاية الطفولة في فسبادن والمدن المحيطة بها، وحصلت على عضوية إحدى الجمعيات المحلية، ثم عضوية منظمات دولية مهمة، وقدمتها عضويتها هذه إلى المجتمع الفلسطيني في لبنان فيما بعد.
مهمة في بيروت
كانت الأوامر تقضي بألا تسعى لعقد صداقات مع الشبان العرب داخل جامعة فرانكفورت أو خارجها، على أن تترك هذا الأمر بالذات للصدقة البحتة إن توافرت، وألا تمارس أن نشاط تجسسي عن قصد. فمحاولاتها للتقرب إلى شباب عربي ستكون مكشوفة حتمًا، وأي نشاط غير طبيعي يضعها في بؤرة الشك. فرجال الاستخبارات الفلسطينية بعد وقوع حوادث عديدة، بدا واضحًا أنهم لا يغفلون عن كل كبيرة وصغيرة. إذ أوقعوا بضباط معروفين في الموساد، واستعملوا أساليب الخطابات المفخخة بمهارة ضد الدبلوماسيين الإسرائيليين في عواصم العالم، وكلها مؤشرات تدل قطعيًا على تفعيل العمل وتطور حروب الأدمغة بين الفلسطينيين والموساد.
كان صيف عام 1978 حارًا بسبب التناحرات الداخلية في لبنان إلا أن الأوامر صدرت أخيرًا، وتحركت عميلة الموساد باتجاه بيروت، تحمل بعض الأموال والخطابات من منظمة الطفولة الألمانية إلى مؤسسة (صامد) الفلسطينية والصليب الأحمر، وقامت بجولات عديدة بين الملاجئ والمخيمات الفلسطينية والمراكز الاجتماعية، تدرس أوضاعها ونشاطاتها وظروفها المادية، وما تحتاجه من معدات ونفقات.لم تبق إيكا غير أسبوع واحد فقط في بيروت، بعد ان تعرفت إلى المدينة ووطدت علاقتها بالمراكز الاجتماعية، وتجولت بالقرب من شارع مدام كوري حيث يقيم علي حسن سلامة، وكانت إيريكا قرأت تقريرًا عن علي حسن سلامة كتب عام 1975 وتفكيره في الموت المبكرالذي يترقبه في أية لحظة، فقط سبق له أن صرح: أعلم أنني سأموت... سأقتل... أسقط فجأة في إحدى المعارك، وعندما أموت يجب على أولادي مواصلة النضال من بعدي، تمامًا مثل أبيهم وجدهم". وسافرت مرة ثانية إلى فسبادن حيث حصلت على معونات طبية للهلال الأحمر الفلسطيني من المنظمة الألمانية. إضافة إلى عدة آلاف من الماركات كتبرع. وعادت من جديد لبيروت وفي هذه المرة قابلت فتحي عرفات رئيس هيئة الهلال الأحمر الذي سر بما رآه من نشاط الفتاة الإنكليزية التي تدرس بألمانيا.
زيارة مختلفة
ما توقعته الموساد،، هذا الاهتمام الفجائي من الضيفة البريطانية، التي وصلت إلى بيروت فجأة تنشر المعونات على ملاجئ الأيتام، جعلها محط اهتمام الأمن الفلسطيني، وما توقعته الموساد قد حدثت تفصيله دون حذف. إذ تم التحري عن إيريكا في فسبادن وجاءت التقارير تبرئ ساحة الفتاة من أية شكوك:
(مسجلة بالدراسات العليا جامعة فرانكفورت. سمعتها بين الطلاب العرب طيبة جدًا. اشتهرت بين الطلاب بمناصرة القضية الفلسطينية وجمع التبرعات من أجل أطفال المخيمات في لبنان، واليتامى الذين خلفتهم الحرب الأهلية وهي عضوة نشطة بمنظمة الطفولة الدوليةA.S.E.D. ونشرت صحيفة الجامعة عن اهتماماتها الاجتماعية في مجال (الطفولة في دول العالم الثالث، وأطفال المخيمات الفلسطينيية) .اشتمل التقرير الأمني على كل ما يتصل بها من حيث علاقاتها بالآخرين داخل محيط الجامعة وخارجها. والمسكن والجيرة وتفاصيل التفاصيل التي تعطي صورة كاملة نهائية عنها. وبناء على ذلك أزيلت شكوك فلسطينية مؤقتة حولها. لكن بقيت هناك تحريات أخرى تتم في بيروت لمتابعة نشاطها وتحركاتها.هذه المرة في شهر سبتمبر 1978 كانت زيارة إيريكا رقم 7 لبيروت لكنها تختلف كثيرًا عما سبقها من زيارات. إذا وصلت وبحقيبتها خطاب تفويض من منظمة A.S.E.D.بعمل فرع لها في بيروت تديره إيريكا، يهتم الفرع بشكل خاص بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام. وهذا الاتجاه فتح لها مغاليق الأبواب المحكمة في بيروت. إذ حصلت على تصاريح بزيارة مؤسسات المخيمات الخيرية والحصول على تقارير وافية عنها، من حيث النشاط والتمويل والحالات والاحتياجات.
العد التنازلي ،،
وكانت الخطوة القادمة الجريئة في بيروت هي استئجار شقة كمقر وهمي لمنظمة الطفولة، إذ لم يكن الأمر مجرد العثور على شقة خالية، أية شقة تطل مثلاً على الكورنيش، أو تقع بشارع الحمراء، إنما كان الوصف المحدد لسمسار العقارات أن تكون شقة علوية جيدة التهوية، لا تخرج من نطاق شارع لبنان . لكن لماذا البحث عن شقة في هذه المنطقة بالذات..؟ والإجابة بسيطة للغاية وهي من أجل مراقبة شقة علي حسن سلامة من فوق، دون أن يلاحظ أحد ذلك. دلها السمسار على أكثر من شقة بمجموعة العمارات المختارة. لكن إيريكا رفضت لكون الشقة دون الارتفاع المطلوب، والذي يحقق ميدان رؤية للشقة الهدف وللشارع أيضًا، أو بسبب أن بعض هذه الشقق لا تطل بالمرة على ناحية سلامة. لذلك أكدت على السمسار أن يبحث لها عن شقة تتوافر بها المواصفات المطلوبة، واجتهد الرجل قدر استطاعته لمساعدة الفتاة السخية، مندوبة المنظمة الدولية التي تبغي مساعدة لبنان، إلى أن عثر على المكان المناسب وكانت شقة تقع بالطابق الثامن ذات موقع استراتيجي هام جدًا، يطل على مفرق بيت ابو حسن سلامة في آحر نزلة شارع (مدام كوري) باتجاه فندق البريستول حيث يسكن مع زوجته جورجينا رزق لتراقب تحركات الأمير الأحمر .
في أكتوبر 1978، وقعت إيريكا عقد الشقة بصفتها مندوب منظمة الطفولة الدولية، والممثل لها في لبنان، وعلقت اللافتة النحاسية على باب الشقة، وببطء شديد بدأت في شراء أثاث الشقة ولوازم إعدادها كمقر مكتبي. ومن ضمن الأدوات التي حملت إلى المقر، تلسكوب قوي دأبت إيريكا على استعماله لعدة ساعات كل يوم في مراقبة شقة سلامة، وتمكنت لمدة شهرين من وضع جدول زمن لتحركاته اليومية صباحًا. في طريقه إلى مكتبه وعصرًا حين عودته، ثم خروجه بعد ذلك في زيارات شبه منتظمة لزيارة والدته وأولاده من الزوجة الأولى. هذا الجدول الدقيق بتحركات ابو حسن سلامة اليومية، كانت الموساد بحاجة ملحة إلى تفاصيله، لوضع خطة الاقتباس بحيث لا تخيب. اتضحت الرؤية، وتحددت خطوات العمل القادمة لانتهاء من كابوس سلامة المفزع، وشبحه الذي ترتجف له العقول في إسرائيل.طارت إيريكا إلى لندن حيث احتفلت مع أسرتها، ليلة رأس السنة ثم طارت إلى فرانكفورت وفسبادن والتقت بشكل سري للغاية مع أحد ضباط الموساد، حيث شرح لها كيفية اللقاء بعميلين سوف يزوران بيروت خلال أيام قلائل. الهدايا للأطفال ،،
عادت عميلة الموساد إلى بيروت، تحمل بعض الأموال والهدايا لأطفال لبنان اليتامى، وتدرك أن وصول عميلين للمساعدة معناه أن العد التنازلي للعملية قد بدأ. وأن نهاية علي حسن سلامة أوشكت على الانتهاء. واصلت إيريكا مراقبتها لعلي حسن سلامة أكثر من 16 ساعة يوميًا كانت تمسك بالمنظار المكبر وتتبع تحركات السيارة الشيفروليه التي يستقلها سلامة، والسيارة الخاصة بحراسته ماركة رانج روفر.
في 17 يناير سافر من باريس إلى بيروت بريطاني يدعى (بيتر سكرايفر)، وفي فندق رويال جاردن هوتيل التقى بالكندي (رونالد كليبرج) الذي كان قد وصل من زيورخ، وكلاهما حجز سيارة من شركة ليبانون كار (Lebanon Car) إحدهما ماركة (فولكس فاجن).
الموت الراقد أسفل المقعد
مساء أحد الأيام غادرت ثلاث قوارب سريعة ميناء حيفا، بأحدهما كان هناك مايك هيراري رئيس وحدة الاغتيالات في الموساد. وفي الليل عندما كان الساعة تشير إلى الثالثة، أنزل قارب مطاطي ميناء جونيهJounieh شمالي بيروت، وهو الميناء الحيوي الذي يسيطر عليه الكتائبيون، أصدقاء إسرائيل في الخارج، أنزلت شحنة من مادةT.N.T. شديدة الانفجار، تسلمها سكرايفر وكلوبرج وانصرفنا دون كلام. وبعد ثوان كان القارب المطاط في طريق العودة إلى السفينة الأم، واستدارت القافلة وطوفت البحر فيما بين لبنان وجزيرة قبرص. كانت المادة المتفجرة تزن 15 كيلو جرامًا، قام سكرايفر ورفيقه بتكويمها تحت المقعد الأمامي والمقعد الخلفي للسيارة الفولكس فاجن، التي ستقوم إيريكا بتفجيرها الكترونيًا عن بعد، بواسطة الريموت كونترول، من شرفة شقتها بالطابق الثامن.
وبعد الانتهاء من وضع العبوة، أوقفا السيارة أمام منزل إيريكا تشارمبرز، حيث تسكن بمنزل أنيس عساف.
كان علي حسن سلامة تحت إمرته سيارة شيفروليه ستيشن ضد الرصاص، ويحذر دائمًا من أن هناك محاولات للموساد لتصفيته، لكنه تعود على مدار سنوات هذه التحذيرات وقذف بها خلف ظهره،غادر الأمير الأحمر شقته وأخذ مكانه بجوار رفيق سفره، جميل، السائق متخذًا طريقه إلى منعطف الطريق عند الميدان، وقد جلس ثلاثة من الحراس في المقعد الخلفي، وتبعتهم السيارة Ranze Rover وبها خمسة أفراد آخرون من الحرس الخاص، وكانوا من القوة 17 الأصابع المقوسة
- كانت إيريكا ماريا تشامبرز تجلس أمام نافذتها وتراقب، كيف كانت تقترب السيارة الشيفروليه بسرعة من السيارة الفولكس فاجن، المفخخة. كان الريموت كونترول بيدها وعيناها معلقتان على سيارة سلامة، قاست المسافة بين السيارتين. ما زال هنالك مائة متر... خمسون مترًا... ثلاثون... عشرون قوست إبهامها.. السيارة تقترب... إنها الآن بمحاذاة الفولكس فاجن تمامًا، الآن وبسرعة، ضغطت على زر الريموت لأسفل، وفتحت فمها متزامنة مع موجة الضغط التالية والانفجار المذهل. وهزت المتفجرات القوية الحي، واشتعل الشارع باللهب تطايرت السيارة الشيفروليه في الهواء
تحطمت سيارة علي حسن سلامة بالكامل، لكن يبدو أنه ما زال حيًا. وبسرعة كان لا بد من إحضاره إلى مستشفى الجامعة الأميركية. ومع كل ذلك لكل ما استطاعه الأطباء في ذلك الوقت إثبات وفاته. لقد التصقت قطعة معدنية بمخه . . في سرعة البرق غادرت إيريكا تشامبرز شقتها لآخر مرة بعد الانفجار فركبت سيارتها واخترقت شوارع بيروت حتى وصلت إلى جونية شمالاً. وفي ظلام الليل غادرت جونية على ظهر سفينته اسرائيلية .
جرت مراسم تشييع جثمان الشهيد الى مقابر شهداء منظمة التحرير الفلسطينيين، بالقرب من مخيم شاتيلا ، حمل ياسرعرفات بنفسه الكفن وسالت الدموع على لحيته المرتعشة، كان يمشي إلى جواره الابن الذي لم يبك أثناء توديع أباه وتتساءل العيون والعقول: هل سيظهر حسن سلامة مرة أخرى..؟
ومع اغتيال أبو علي حسن سلامة ، لم يهدأ القائد صلاح خلف ' أبو إياد ' فأرسل فورا إلى كل مساعديه طالبا منهم البحث عن اريكا واحضارها إما ميتة أو على قيد الحياة ، وبالفعل تم إبلاغ كافة رجالات الأمن الفلسطيني ' المخابرات ' في جميع أنحاء العالم ، بعد أن حصلوا على معلومات ومواصفات العميلة اريكا ، وبدأ البحث ليل نهار إلى أن عثر عليها في اليونان برفقة اثنين من كبار ضباط الموساد الإسرائيلي وتم قتلهم جميعا وإلقاء قنبلة على جسدها الذي تقطع ارباً!!.
غازي الكيلاني
21 يناير، 2015 ·
إرسال تعليق