شقيقات الشهداء الفلسطينيين الصحافية رشا حرز
الله والطبيبة رؤى الريماوي: «تمروش عأخبار الشهدا مرور الكرام»
رام الله ـ: تكتبت الصحافية الفلسطينية رشا حرز الله، ابنة
حارة الياسمينة في البلدة القديمة في مدينة نابلس، وهي شقيقة الشهيد محمد حرز الله
الملقب «أبو حمدي»:
«لما
كان أبو حمدي صغير كان يحب يحضر مباريات وكان يشجع أي فريق لابس أبيض، يقعد قدام
التلفزيون وكل ما تقرب الكرة من المرمى يحكي (أب أب
أبيض أبيض يلا) كبر وصار يشجع ريال مدريد ومرات يحتد ويزعل وينقهر لما ينغلب
الفريق.. مرة وصاني على (كلر) الريال من عمان لكريستيانو رونالدو، ولما لبسو وصار
يقلد حركاته صرت أحس إنه بشبهو فعلا.. مع اني ما بحب الرياضة ولا بهتم فيها بس صرت
بحب أشوف كريستيانو وأحب الفرق الي بتلبس أبيض.. قديش
ممكن قلبي يتحمل وجع التفاصيل الي تركها أبو حمدي وراه!
».
كان هذا أحد النصوص «البوستات» التي تكتبها الإعلامية حرز
الله عن شقيقها الذي رحل بعد أشهر من الإصابة برصاص الاحتلال خلال اشتباك مع
القوات التي اقتحمت حارتها القديمة، وعبر ما تكتب تبقي أبو حمدي حيا وحاضرا في
محاولة للتغلب على فعل الرحيل المر والموجع.
أما الطبيبة أروى الريماوي شقيقة الشهيدين ظافر وجواد الريماوي اللذين قتلتهما
قوات الاحتلال قبل أسابيع فتمارس فعل إحياء شقيقيها عبر استحضارهما وفعل تذكرهما
الدائم على صفحتها على شبكة فيسبوك. في إحدى المنشورات القصيرة كتبت تقول: «صليت
عشان أدعيلهم بالرحمة بسجودي وأول ما سجدت لا إراديا لساني
قال الله يخليلي إياهم.. يا رب الهمنا الصبر».
وتبدو صفحة الطبيبة الريماوي على شبكة التواصل الاجتماعي قد
انعطفت بفعل استشهادهما، كما هو حال الإعلامية رشا، حيث تحولت من صفحة تعكس
إنجازاتها وعملها ودراستها إلى حالة من التداعي الحر والشجن العاطفي الذي يرصد
علاقتها مع أخويها الشهيدين.
ولا يكتب لجميع الشهداء الذين يسقطون في فلسطين المحتلة على
اختلاف أعمارهم ومناطق استشهادهم ومهنهم وقصصهم الإنسانية أخوات مثل رشا ورؤى، لكن
ما يقمن به يشكل أكبر دعوة للكتابة عن الشهداء بصفتهم أشخاصا من لحم ودم، فما
تفعله الصحافية والطبيبة هو فعل وممارسة تستحق الاحتفاء والإبراز، فما يقمن به يعكس حالة ورغبة بتجاوز الآني والسريع
الذي تنشغل به نشرات الأخبار وينسينا ما قد مضى ليعبرن عن دعوة لعدم نسيان الشهداء
وعدم المرور عن أخبارهم بشكل عادي أو مرور الكرام.
أخت أسد «الفزعات»
في أحد منشورات الصحافية رشا حرز الله، التي تعمل محررة في
وكالة «وفا» الفلسطينية الرسمية تقول مخاطبة شقيقها الشهيد: «لم تسعني الدنيا
اليوم وأنا استمع لعريف مراسم التأبين وهو يسميك بين الجموع (أسد الاشتباكات
المسلحة أبو حمدي) كنت أنهض من مقعدي وأصفق لاسمك بكل ما فيي من قوة وعزم.. كان
قلبي يرقص على وقع حناجر
الشبان والفتية والأطفال وهم يهتفون (أبو حمدي أبو حمدي) كنت أرغب باعتلاء المنصة
وأقول لهم بأعلى صوت (أنا أخت هذا المارد أخت هذا الشهم أخت أسد الفزعات كما يحب
أهل البلد مناداتك) كنت أريد أن يرى الجميع مدى فخري بك وببطولاتك، ببندقيتك،
برصاصك، بدمك الذي سال على جدران حارة الياسمينة ولم ينشف
حتى الآن».
وفي منشور آخر تكتب: «كثير من الفخر يا أبو حمدي وأنا أرى
جدران البلدة القديمة تعج بصورك وبالنصب التذكارية التي بدأ أصحابك بوضعها في أزقة
الحارات التي تشهد لك.. ان أرى صورك تتدلى من صدور الشبان والأطفال.. كثير من
الفخر يا أبو حمدي وأنا أمر بين الناس في البلدة منهم من أعرفهم وكثيرين لا أعرفهم..
يترحمون على عينيك أحب كثيرا عندما يقولون لي (يرحم عيونو
أبو حمدي) ففيها أدرك حجم الخسارة والفقدان الذي يشعرون به بعدك. هؤلاء من أتعمد
بفتح حوار معهم ليحكوا لي قصصا عن صاحب العزمات التي لا تنسى.. مع كل هذا الفخر يا
أبو حمدي إلا أن الفقدان موجع وللحقيقة لم أكن أعلم انه موجع لهذا الحد.. وألا شيء أبدًا يمكن ان يعوضك».
وكانت حرز الله قد كتبت نصوصا طويلة في فترة صعبة قضاها
شقيقها على سرير الشفاء بعد أن أصيب إصابة خطرة في الرأس حيث كتبت في إحداها:
«طوال فترة إصابة أبو حمدي لم تمر علي لحظات أقسى من تلك التي كان يلفظ بها أنفاسه
الأخيرة قبل أن يدون اسمه في سجل الخالدين..
قبل استشهاده بنصف ساعة كنت أجثو
على ركبتي إلى جانب سريره بالعناية المكثفة بكامل عجزي،
أتأمل تفاصيل وجهه للمرة الأخيرة، وأسمع شهيقه وزفيره الأخير الذي كان أشبه بصوت
العصافير.. ناعم.. هادئ.. مليء بالسكينة، كما لو أنه نائم في يوم عادي. لم تفارق عيناي الجهاز الطبي الذي كانت
مؤشراته الحيوية توحي أن أبو حمدي بين لحظة وأخرى سيكون
على درب رفاقه، كان قلبي يهوي مع كل درجة انخفاض يسجلها
جهاز الأوكسجين، وأنا متمسكة بالأمل واستحلف ابو حمدي بأن يصمد أكثر » . وتابعت
في ذات المنشور: «كنت أنهض بصعوبة وأضرب
بيدي الجهاز الطبي متوسلة إليه بألا ينخفض أكثر لكني وبعدما يأست اقتربت من أذن
أبو حمدي ورحت أخبره بكل الأشياء التي خبأتها عنه، أخبرته بمن ضمتهم الأرض في
جوفها بعدما سطروا أروع البطولات، أخبرته باستشهاد رفاقه العزيزي وصبح والوديع
وابراهيم، وكل تفاصيل ما جرى في البلدة
القديمة التي أحبها خلال فترة إصابته. استعدت
مع أبو حمدي شريط ذكريات حياتنا سويا على عجل أسابق الزمن قبل أن تصعد روحه إلى
بارئها.. قلت له كم ستكون الحياة فارغة وبدون معنى بلا مشاكلنا وصراخنا، وكيف
ستفقد الحارة سندها والأب الروحي لها، وكم كان بطلا وشجاعا، وعن رصيد الحب الذي حظي به بين الناس، أخبرته كم
أنا فخورة وأباهي به الخلق أجمع.. لقد كانت لحظات مُرة كالعلقم.. في اللحظات تلك حضر الأمن والأطباء طالبين
مني الخروج من الغرفة بسبب انتهاء المدة المحددة للزيارة وليتمكنوا من إحضار حالة
من العمليات لكني رفضت وأمام ذلك وعدوني بأن أدخل مرة أخرى خلال وقت قصير بمجرد الانتهاء من عملهم لكن وقبل أن أخرج
اقتربت من أبو حمدي مرة أخرى وقلت (مش رح أغيب كتير عنك أنا برا اوعك تستشهد اوعك
تعملها وأنا بعيدة( ». وتكمل: «مرت نحو نصف ساعة أو أكثر بقليل قبل
أن تبدأ الاتصالات تنهال علي ويقع معها قلبي مرة أخرى وأدرك أن أبو حمدي رأفة بي
ارتقى وأنا خارجة. لا أعلم كيف وقفت على باب العناية وبدأت بطرقه بكلتا يدي وأنا
أصرخ على الأطباء متوسلة ان يفتحوه لي، ذلك الباب الذي فُتح على الطبيب وعدد من
الممرضين وهم يبكون بمرارة لأدرك أنها
النهاية. ركضت نحو أبو حمدي،
الذي كان مسجى على السرير وقد لُف بالأبيض الناصع. كان الصمت والهدوء يلفان
المكان، لا أجهزة طبية، ولا محاليل ولا أدوية، انتهت أوجاع أبو حمدي جميعها. كشفت
عن وجهه وتحسسته بدا باردا قليلا لكن لم يحدث وان رأيت شيئا أجمل من تلك الملامح. دنوت
من نصف رأسه وقبلت الغرز
الطبية، قبلت الجبهة العالية التي لم تستسلم أو تلين وبقيت تقاتل من أول قطرة دم
حتى آخرها، قبلت جرحه الذي نزف 4 أشهر، ونصف رأسه المفتوح
».
وبعد الاستشهاد نشرت فيديو لشقيقها وكتبت عليه: «في مثل هذا
الوقت من العام الماضي أجرى أبو حمدي عملية جراحية صعبة في معدته ولما خرج كان تحت
تأثير البنج اسمعوا ما يقول وكأنه كان يستشعر طريقه، وكان يقرأ الآية القرآنية:
(ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…(».
مش عادي احنا كل يوم نقدم شهيد
أما الطبيبة رؤى الريماوي فمنذ استشهاد الأخوين ظافر وجواد
تعمل على الكتابة بشكل دوري عن حياتهما وصفاتهما الشخصية، وتستعيد الذكريات التي
جمعتهم، والمواقف الطريفة والصعبة أيضا، تكتب عن حنانهما عليها وعلى العائلة،
وتبوح بالأحلام المشتركة أيضا.
تكتب في إحدى منشوراتها: «ظافر.. شبيهي في كل شيء، لكنه
النسخة الأفضل. من شده تشابهنا كنا نضل متطاوشين وعمره ما هان عليه يتركني زعلانة،
يجي ويضل يتحركش ويمزح ويحكي لحد ما قلبي يصفى عليه.. الشخصية القوية العنيدة،
صاحب الفكر الاستثنائي، شايف مستقبله الكبير قدامه وماشي باتجاهه، من أذكى الشخصيات الي مرت علي، ومن مواهبه كان
يجمع ويطرح ويضرب الأرقام الكبيرة بغضون ثواني، اللعبة المفضلة عنا كانت انا أعطيه
أرقاما ونشوف كم ثانية باخد منه ليعرف الجواب وعمره ما حد غلبه فيها، لما تخرجت من
الجامعة بشهر 7، التغى حفل تخريج الكلية فكنت بحكي ومقهورة، اجى وحكالي (انت
مقهورة عشو؟ هلا بحطك بالسيارة وبخلي
الدنيا كلها تحتفل بتخريجك، وحفلة وبنعملك، وجلسة تصوير بنحجز لك انت شو بدك
بحفلتهم؟) هاد هو السند اللي عقلي مش قادر يستوعب خسارته..
». وفي منشور آخر تكتب عن «الوجع اللي ما بتصور
ولا بنحكى عنه» وتقول: «أمي أول ليلتين ما نامت ضلت قاعدة عند الشباك
تستنى جواد وظافر يرجعوا، وأنا لهلأ مش قادرة أدعيلهم بالرحمة وأسبق اسمهم بألفاظ
الشهادة والموت، لساني مش قادر يحكيهم لإنه عقلي مش مستوعب انه جد هم مش راجعين،
فانتو ادعولهم لحد ما الله يقدرني. ورحت
أدور عليهم بالمقبرة، لقيت ورد وصور الهم بس ما لقيتهم، دورت بالجامعة بكل وجوه
الناس وبرضو ما لقيتهم، بقعدات صحابهم وبكل محل.. أنا لهلا بدور عليهم، وبروح
عغرفتهم كل يوم أول ما أصحى وبنصدم بكل مرة إنه الغرفة فاضية، هاد مشهد ما بتعتاد
عليه. والناس كلها بتحكيلك (اصبر، وكمل الحياة) بس محدا
بحكيلك كيف؟ محدا بعلمك كيف؟».
وتكمل في ذات المنشور: «هاد الوجع مش طبيعي، اللي بصير مش
عادي! مش عادي احنا كل يوم نقدم شهيد! هاد الوجع ممنوع حدا يعيشه! تمروش عأخبار
الشهدا مرور الكرام وتكملوا اليوم عادي، هاد كله مش عادي!
».
وتصف أخويها بإنهما «بهجة الدار» وتكمل: «جواد وظافر طول
عمرهم بهجة الدار، فش قعدة هم فيها إلا الكل بضحك ومبسوط، عندهم طريقتهم المضحكة
والخاصة بسرد القصص، وعندهم القدرة يضحكونا حتى بأسوأ الظروف.. بامتحانات الفاينل
كأي طالب طب كنت انضغط كتير وأبلش أعيط، يجي علي جواد ويقلي (انتو طلاب الطب يما منكم بتعيطوا بتعيطوا واذا
بدكم تخبصوا بتجيبوا بال 70 ولكم تعلموا منا) ويضل عراسي ينكت ويضحك لحد ما أضحك
وأنسى الموضوع. ظافر كان يحط الأغاني ويعمللنا حفلة طربية وكل شوي يقلنا صوتي حلو
صح؟ طبعا هو واحنا وكل حدا عارفين انه صوته مش حلو، وأضل اقله انت حلو لحد ما
تغني.. ما توقعت يجي اليوم اللي
أتمنى اسمعه بغني ،هاي التفاصيل اللي بوقتها بتكون حلوة يا الله هلا شو بتصير
توجع، كيف بدها ترجع الضحكة عالبيت؟ وصوتهم بغنوا شو بده يرجعه؟ ومين يضحكنا بعز
الزعل؟».
الوجع الاستثنائي
وفي قائمة منشورات كل من رشا ورؤى الكثير من الوجع
الاستثنائي الذي غالبا ما يبقى داخل نفوس عائلات الشهداء وأقاربهم، لكنهما يقدمان
نموذجا ملهما لكيفية التعاطي مع وجع الفقد ومرارة الغياب في وصفة مهمة ضد النسيان.
وحسب الإعلامي والناشط السياسي والباحث معز كراجة فيصف
كتابة رؤى بإنها مباشرة وعفوية، بسيطة بدون أي تكليف أو مبالغات، لذلك تدخلك فعلا
إلى حياتهما وتشعرك كلما مر الوقت وكلما كتبت أكثر بحجم الخسارة ومعنى الوجع.
ويضيف كراجة: «ما يكتب يجعلك تخاف أن تتكرر هذه الخسارة في
عائلات أخرى. تكتب حتى لا يتحول أخوتها إلى أرقام كما تقول، ولكن الملفت أكثر حين
تقول بأن تعليقات الناس وتفاعلهم مع ما تكتب يدعم ويساند عائلتها.
ويشدد قائلا: «فعل الكتابة هذا هو ما يعجز الإعلام المحلي
عنه حتى الآن. ما زال الإعلام أسير الخبر ولا يحترف رواية القصة. وهذا العجز هو ما
يجعل الشعور الجمعي لنا يتجاوز هذه الخسارات بسرعة. فقبل أيام قتل شاب على حاجز
حوارة أمام الكاميرات، وغاب هذا الشاب من دون أن نعرف عنه ما يجب أن نعرف، وسيقتل غيره بطريقة أكثر بشاعة وسوريالية
وسنتجاوزها بأسرع مما نتخيل. وهذا ليس فقط بسبب معطيات الواقع السياسية، ولكن
لأننا لا نغوص كفاية في حياة هؤلاء الشهداء وتفاصيلهم الصغيرة».
Kommentar veröffentlichen