الفرار من معتقل شطة
ثوار لهم إرادة من ماء نار
ناصر دمج
(*)
حدث ذلك، عشية الحادي والثلاثين من تموز وصباح الأول من آب
1958م، وتعد هذه القصة واحدة من معجزات الفرار الجماعي من داخل قلاع الأسر المحصنة
بالحديد والفولاذ، والمسيجة بأبراج المراقبة والحراس المدججين بالأسلحة، ونتج عنها
فرار 66 أسيراً من أسرهم، ومقتل حارسين إسرائيليين من حراس المعتقل، واستشهاد 11 أسيراً
فلسطينياً، وجرح العشرات منهم، كما تسببت بموجة إقالات ومحاكمات لكبار ضباط مصلحة المعتقلات
الإسرائيلية العامة، وفي مقدمتهم مديرها العام "تسفي حرمون" الذي خلدت ذكراه
باطلاق اسمه على (سجن) كبير وسط الجليل المحتل.
وحدث ما حدث، بعد أن اكتملت مقاطع الفكرة الجريئة في مخيلة الأسير
المصري "أحمد عثمان"، وهو ضابط مخابرات مصري محترف تم إلقاء القبض عليه بعد
وصوله إلى مستعمرة "تل أبيب" بطريقة مثيرة وغير متوقعة، لكنها تمت بتكليف
من المخابرات المصرية، ووصل لذلك بعد أن اجتاز العديد من دورات التدريب، قبل ابتعاثه
لفرنسا كواحد من المعارضين المصريين لثورة 23 تموز 1952م، بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر.
فيما بعد انغمس في النشاطات الإعلامية المعادية للثورة المصرية في باريس؛ فلفت أنظار المخابرات الإسرائيلية إليه، فبادرت إلى الاتصال
به بعد الانتهاء من مراقبته.
فأخبرهم بمدى كرهه لعبد الناصر وثورته، مبدياً استعداده للعمل
ضدها بأي شكل، واقترح عليهم مساعدته لإنشاء إذاعة خاصة لبث مواد تحريضية ضد مصر.
راقت الفكرة للإسرائيليون الذين قابلوه، ونقلوا ما سمعوا منه
لرؤساءهم، فوافقوا بدورهم على منحه ما يريد، بما في ذلك نقله للإقامة في تل أبيب، فتردد
الرجل بقبول العرض، لكن قبله في النهاية وانتقل فعلاً إلى تل ابيب.
لكن حيلته لم تعمر كثيراً، فسرعان ما تم اكتشاف أمره، بعد أن
تعرفت عليه أمرأة يهودية مصرية، فابلغت عنه، فاعتقل على الفور، لكنه أنكر كل ما وجه
له من تهم، لكن المخابرات الفرنسيـة طلبت من الإسرائيلية ابقاؤه رهن الاعتقال، لوجود
شكوك قوية حوله، لتورطه في أنشطة دعم للثورة الجزائرية.
ليتم إيداعه المعتقل بنظام الاعتقال الإداري، وتنقل بين عدة
معتقلات من بينها معتقل شطة، هو عبارة عن حصن عسكري إنجليزي شيد تحت إشراف ضابط من
الجيش الانجليزي يدعى "تشارلز تغارتSir Charles
Tegart "، فوق
أثر معماري عثماني عسكري.
واستلهم الضابط الإنجليزي
فكرته (قلاع تيغارت - מצודות טגארט)،
من وحي خدمته في الهند ومساهماته في قمع الثوار الهنود والبنغال، مستخدماً العنف العماري
كوسيلة من وسائل التصفية للثورات، فشيد 54 حصناً عسكرياً في فلسطين، ستعرف فيما بعد
بالمقاطعات.
فكرة الفرار
وقد دبر "أحمد عثمان" أمره ونفذه، بالتعاون الوثيق
مع الأسير "محمود البطاط"، وهو مناضل فلسطيني من سكان بلدة الظاهرية في محافظة
الخليل، لكن عثمان نفسه لم يتمكن من الخروج من المعتقل، بسبب مشاغلته لحراس الأبراج
المحيطة به، لكن 66 أسيراً آخرين اجتازا أسوار المعتقل، ووصولوا إلى جبال فقوعة في
محافظة جنين، بعد أن استشهد ستة منهم؛ وأصيب "أحمد عثمان" بستة رصاصات منعته
من الالتحاق بزملاءه، فيما بعد قدم عثمان مع غيره من الأسرى لمحاكم عسكرية بتهمة الفرار،
فحكمت على كل منهم بخمس سنوات، لكن عثمان حظي بستة؛ وبعد انتهاء مدة محكوميته لم يطلق
سراحة، فواصلت (إسرائيل) احتجازه إدارياً، حتى عام ١٩٦٦م.
محمود البطاط، المخطط الثاني للعملية
قبل اعتقاله في منتصف خمسينيات القرن العشرين، كان له صديق اسمه
"عامر بن طلاق" وكان راعياً للأغنام، وقرر كلاهما مقاومة المحتل الإسرائيلي
بما تيسر لهما من وسائل القتال، وكان البطاط مطلوباً لجيش الاحتلال، وبسبب ذلك سكن
جبال الخليل المتصلة ببادية بئر السبع، ذات يوم كان في واحد من هذه الجبال المطلة على
منطقة عراد شرقي مدينة بئر السبع بانتظار زميله "عامر بن طلاق".
في هذه الأثناء ظهرت في السماء المروحيات الإسرائيلية، فقال
محمود لعامر يجب أن نفترق، وتواريا بين الأشجار الكثيفة، لكن الجنود الإسرائيليون تمكنوا
من الإمساك بعامر، فبدؤوا باستجوابه؛ لكنه لم يجبهم على أسئلتهم وواصل اهتمامه بالأغنام،
فتركوه ظناً منهم بأنه ليس على ما يرام.
لكن بعد أن توارى عن عيونهم، قرر ملاحقتهم لمعرفة ما سيحدث مع
زميله "البطاط"، في هذه اللحظة قرر عامر إطلاق النار على الجنود؛ لصرفهم
عن ملاحقة زميله، فرد عليه الجنود برصاصهم فقتلوه؛ ومثلوا بجثته واقتلعوا عينيه.
البطاط من فرط قلقه على زميله عاد ليتفقد مكانه السابق، فوجده
مضرجاً بدمه ورأسه بلا عينين، فثارت ثائرته، وقرر الانتقام في الحال لمقتل "عامر"
فتمترس خلف إحدى الصخور المنيعة داخل الحرش، وبدأ بإطلاق النار من بندقيته نحو الجنود،
فقتل منهم أربعة، وحاول الفرار بعد ذلك، لكن الجنود تمكنوا من اعتقاله، فتم ضربه وتعذيبه
بوحشية من قبلهم، وتم نقله إلى معتقل الرملة، ومنه نقل إلى معتقل شطة.
في معتقل شطة التقى "البطاط" بالأسير المصري
"أحمد موسى عثمان"، وبأحمد خليل، وهو مناضل معروف من سكان قطاع غزة، وسبق
له أن نفذ عملية فدائية بالشراكة مع "يونس أبو سويرح" بالقرب من مستعمرة
"يد مردخاي" القريبة من حدود غزة.
لكن إدارة المعتقل كانت تتعمد ضربه وتعذيبه، فقام بالرد على
من يعذبوه بضرب عدداً منهم، بسبب ذلك اعتبره الأسرى بطلاً حقيقياً ونصبوه قائداً عليهم،
وأصبح ممثلاً لهم أمام إدارة المعتقل، وكان له معاونين أساسيين، الأول: أحمد خليل،
والثاني: أحمد عثمان، وتمكن البطاط بمساعدتهما من تحقيق مكاسب كثيرة للأسرى، منها:
بناء حمامات جديدة، وإنهاء حالة انتعال الأسرى الأحذية الثقيلة طيلة ساعات النهار،
وفي معتقل شطة قابل البطاط الأسير "سلمان بن طلاق" ابن عم رفيق دربه الشهيد
"عامر بن طلاق".
التخطيط للفرار من المعتقل
تبلورت فكرة الفرار من المعتقل في ذهن "أحمد عثمان"
و "محمود البطاط" وبدءا التخطيط الفعلي لها، هنا سيبرز دور فتيان من غزة
وهما "علي وسلامة"؛ لأنهما كانا يخرجان إلى ساحة المعتقل بسبب عملهما خارج
أقسام الأسرى، ولا يدخلان الزنازين إلا مساءً للنوم، واعتاد الحراس على حركاتهما الكثيرة وغير المدقق
فيها، وكانا ينقلان للبطاط كل ما يشاهدانه وما يسمعانه خارج الأقسام، وكانا من المعجبين
بشجاعة البطاط أيما إعجاب.
ذات يوم، أمر البطاط الفتيين بتفتيش السيارات الموجودة في ساحة
المعتقل، والسيطرة على ما فيها من لوازم ومعدات وقنابل، أو رصاص أو محروقات أو مفكات
أو ذخائر أو زجاجات، وبالفعل بدؤوا العمل بشكل سري، وتمكنوا من جمع 58 طلقة وقنبلة
يدوية وسكاكين ومفكات وزجاجات، تم تخبئتها جميعاً من قبل البطاط بسرية وإحكام شديدين.
وواصل الفتيان الأسيران جمع المعلومات عن محيط المعتقل من الخارج،
وذلك بناء على تعليمات البطاط، وقد قاما بذلك خير قيام؛ لأنهما يخرجان برفقة حراس المعتقل
خارج الأسوار لتنفيذ أعمال يؤمرون بها من قبل إدارة المعتقل، بعد فترة من الزمن كان
بحوزة البطاط كمية وفيرة من المعلومات عن المعتقل من الداخل والخارج، ومن أهمها وجود
أشجار كثيفة تحيط به من جهة الجنوب، والمطلة على مرج بن عامر المؤدي إلى مدينة جنين،
في إثر ذلك قام البطاط وأحمد عثمان برسم المسار النهائي للفرار.
لكن الفتيان سمعا في اليوم التالي من ضباط المعتقل، وهم في عيادته،
يتحدثون عن نقل محتمل لبعض الأسرى، ومنهم البطاط، على الفور نقل الفتيان هذا الحديث
إلى البطاط، الذي تبادل الرأي مع زميليه حول ما ورد، ووجود احتمال إلى أنه تم اكتشاف
خطة الفرار، في هذه الأثناء اقترح أحمد خليل أن يتم البدء بالعمل فوراً قبل عملية النقل،
أي قبل نهاية إجازة يوم السبت وحلول نهار يوم الأحد، تم التوافق بينهما على البدء بالتمرد
ظهر يوم السبت 31 تموز 1958م، وخلال تناول الحراس لطعام الغداء، فأوعز البطاط للفتيين
بتجهيز زجاجات بانزين، وعلبة كبريت، وقطن، ووضع كل ذلك بجانب حاوية القمامة القريبة
من غرفة البطاط ومن مقر الحراس.
بدء التمرد
كان محمود البطاط قريباً من غرفة الحراس، وينتظر جلوسهم إلى
طاولة الغداء لبدء الخطوة الأولى، ومع تمام الساعة 6:10 مساءً، أشعل البطاط الزجاجات
الحارقة وألقى بها وسط ساحة المعتقل، وعلى الفور اقتحم "أحمد عثمان" ومعه
عشرة أسرى آخرين، غرفة اليوميات وقتلوا الحارس المناوب، ثم استولوا على مستودع الأسلحة.
وقطعوا سلك الاتصال الهاتفي وحطموا جهاز الاتصال اللاسلكي؛ لكن
الحارس "يعقوب مرهافي" تمكن من الخروج من المعتقل وأوقف سيارة، وطلب من سائقها
التوجه إلى مركز الشرطة في بيسان المحتلة، فبدأ رجال الشرطة وحرس الحدود بالوصول إلى
المعتقل؛ لكن ذلك تم بعد أن تمكن 88 أسير من اجتياز أسوار المعتقل، نجح 66 منهم في
الوصول إلى جبال فقوعة.
خلال الدقائق الأولى للتحرك سيطر الأسرى على الحراس، وكسروا
أقفال الزنازين والغرف، وأخرجوا جميع الأسرى منها، ودعوهم لتسلق الأسوار والهرب على
الفور، فتمكن من فعل ذلك 88 أسيراً فقط، من أصل 190، كما بقي خارج أسوار المعتقل مجموعة
من الحراس الإسرائيليين، فقام محمود والفتيان بإطلاق النار عليهم وأصابوهم، ومن ثم
التحقا بالأسرى الذين تمكنوا من الفرار قبل وصول إمدادات الجنود الجديدة.
وهم في طريقهم إلى جنين اصطدم بعض الأسرى بجنود جيش الاحتلال
المزودين بالمروحيات والكلاب المدربة، فقتل الجنود أحد عشر أسيراً واعتقلوا عشرين آخرين،
وكان من بين الذين أصيبوا، ثم استشهدوا الأسير "محمود البطاط"، أما زميله
"أحمد موسى" فتمكن من الوصول إلى مدينة جنين.
وكان آخر ما قاله الشهيد "محمود البطاط" للفتيين
(علي و سلامة) أرى بأن على كاهلكما مهام كبيرة وثقال، لا ينفذها سوى أبطال حقيقيين،
وأرى فيكما ذلك، فأوصيكم بمواصلة الركض ولا
تنظرا خلفكما أبداً، لأن فلسطين ستعود لأهلها يوماً ما، حتى لو أصبحنا جثثاً هامدة.
Post a Comment