الحفر تحت أسوار قلعة الفولاذ
الفرار الأسطوري من معتقل نفحه
ناصر دمج
(*)
"خليل مسعود الراعي" و "شوقي أبو نصيرة"
و "كمال عبد النبي"، حفروا بمعاول من لحم دم، تحت أسوار قلعة الموت البطيء؛
التي قرر سجانهم دفنهم فيها وهم على قيد الحياة؛ بعد أن شيد مقاطعها أطواراً من الحديد
والنار والفولاذ، لكنهم تمكنوا من صناعة اللحظة التي رسموها في مخيالهم الجامح والتواق
للخلاص من قبضة السجان؛ والتسرب من بين الفتحات المتاحة ما بين قضبان الحديد والفولاذ،
التي تحيط بالمعتقل من كل جانب، في مشهد سيريالي كأنه مستوحى من عالم الأساطير والبطولات
النادرة.
شييد معتقل نفحة في جوف الصحراء، حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع،
في نهاية سبعينيات القرن العشرين، بمواصفات قمعية شديدة البطش، لإحكام العزلة والسيطرة
على من فيه من أسرى، ويبعد حوالي (80 كم) عن معتقل بئر السبع جنوباً، وكان يتكون في
مرحلته الأولى من مبنيين.
الأول: قديم
وهو الذي شهدت غرفه وأقسامه وساحاته وقائع الإضراب الأسطوري للأسرى الفلسطينيين بتاريخ
14 تموز 1980م.
أما الثاني: شييد في نهاية ثمانينيات القرن العشرين بمواصفات
وخبرات أمريكية، وهو مخصص للسجناء الجنائين العرب واليهود على حد سواء، ويتسع معتقل
نفحة لـ 400 أسيراً.
وتحيط به من الخارج جدر محصنة ومتتالية من الأسلاك الفولاذية
الشائكة المثبتة حول أعمدة حديدية غائرة في باطن الأرض ومدعمة بالأسمنت المسلح، وتغطي
هذه الأسلاك جدران المعتقل من جهاته الأربعة، وتغطي نوافذ غرفه وزنازينه وأسطح ساحاته،
ويلتف حوله المعتقل سور اسمنتي منيع مدعم بأبراج حراسة مسلحة بالرشاشات الآلية، وتتمكن
تلك الأبراج من مراقبة محيط المعتقل وكشف ساحاته الداخلية، وبين هذه الأسلاك الشائكة
يوجد ممرات خاصة بكلاب الحراسة المدربة لحماية هذا النوع من المنشئات القمعية، وهذه
الكلاب مربوطة بوساطة حبل متصل بقضيب معدني مثبت إلى الجدار الأسمنتي على ارتفاع يوازي
قامة الكلب، للسماح له بالذهاب والأياب على طول الممر المخصص له لاكتشاف أي أمر غير
مألوف، باختصار يمكن القول إن معتقل نفحة هو عبارة عن قلعة من الفولاذ يتحرك داخلها
آدميون بصعوبة شديدة.
في نهاية ثمانينيات القرن العشرين قررت مصلحة المعتقلات الإسرائيلية
العامة بناء قسمين إضافيين للقسمين الموجودين أصلاً فيه وهما (أ) و (ب)، وكان مطبخ
المعتقل ومخزن الملابس ملاصقين لقسم (أ) المجاور لساحة النزهة (الفورة)، أما قسم (ب)
فهو محاذ ٍ لنهاية ممر (مردوان) قسم (أ)، وبعد ذلك يوجد جدار من الأسلاك الحديدية الشائكة،
وخلفه يربض كلب الحراسة المدرب.
خلف هذا الجدار يتم تنفيذ أعمال التوسعة الجديدة للمعتقل الهادفة
إلى بناء قسمين جديدين، وهما (ج) و (د)، بالإضافة إلى مرافق أخرى معهما، كالعيادة والكانتين
وزنازين وغرفة للزيارة.
خلال ساعات النهار كانت إدارة المعتقل تبعد كلب الحراسة عن موقع
العمل بسبب وجود العمال، وتعيده في المساء بعد انصرافهم، ويتم ذلك من الساعة الرابعة
عصراً – الرابعة والنصف، من كل يوم ما عدا أيام السبت، أي إن عملية إعادة الكلب إلى
مكانه تستغرق ثلاثون دقيقة، يعني ذلك بأن الساحة تكون خالية من العمال والكلب وأحيانا
الحراس لمدة (30) دقيقة، وهذا هو الوقت المثالي للفرار من المعتقل عبر هذه الساحة.
هكذا قال الأسير "شوقي أبو نصيرة" لرفيقيه "خليل
مسعود الراعي - أبو الصاعد" و "كمال عبد النبي" وثلاثتهم من سكان قطاع
غزة ومحكومين بالاعتقال مدى الحياة، ويعملان معاً في مردوان القسم (أ)، فراقت الفكرة
لهم وبدءا بالعمل لفتح ثغرة في جدار الأسلاك الشائكة، وبدءا العمل حتى وصل بهما الحفر
والقص إلى الساحة التي يتم بها العمل.
قبل ذلك لم يكن من السهل عليهم الحصول على المنشار الحديدي الذي
يلزمهم في العمل، فكيف حصلوا عليه؟
طلبوا عون ذويهم وتمكنوا من الحصول على أكثر من منشار عبر شبك
الزيارة، لكن ذلك لم يكن التحدي الوحيد أمامهم لاتمام العملية دون أن يتركوا خلفهم
أي أثر يسهم في فضح أمرهم قبل تمامه، فكانت مشكلة التغلب على عملية إحصاء الأسرى داخل
كل غرفة بعد فرارهم منها، لكيلا يظهر فيها أي نقص في عديد الأسرى، وتم التغلب على هذه
المشكلة بصناعة مطرقة من خشب، مكونة من عصا مكنسة النظافة في كل غرفة، وهذه المطرقة
مثبتة بحبل مخفي يمسك به أحد الأسرى الموجودين في الغرفة، فيقوم هذا الأسير بإرخاء
الحبل من يده لتسقط العصا على باب الحمام الحديدي فيعرف ضابط العدد بأن هناك أسير ما
في الحمام.
وهذه حركة متفق عليها بين الأسرى وضباط العدد وتعني بأن الأسير
غير الموجود أمام ناظريهم موجود تلقائياً في الحمام، وهذا الأمر منبعه أن الشريعة الإسلامية
تمنع الحديث داخل الحمامات أو دورات المياه، لذا تم التوافق بين الأسرى وضباط العدد
منذ فترات طويلة بأن يقوم الأسير المتواجد داخل الحمام بالطرق على بابه ليؤكد وجوده
فيه، فيكتفي ضابط العدد بهذه الطرقة ليتأكد من الأسير موجود لا مفقود.
التنفيذ ...
بناء عليه قام الأسرى الثلاثة بصناعة مطرقة من خشب بمساعدة أسرى
آخرين، مكونة من عصا مكنسة النظافة في كل غرفة، وثبتوها داخل الحمام بعد أن تم ربطها
بخيط يمسك به أحد الأسرى في الغرفة، ويكون جاهزاً لتنفيذ المطلوب منه بعد أن يبدأ ضابط
العدد الإسرائيلي بالسؤال عن الموجود في الحمام فيرخي حبل المطرقة لترتطم بباب الحمام،
وبسماع ضابط العدد لهذا الصوت يتأكد من تمام العدد في الغرفة وينهي عملية تعدادها؛
وتم تكرار هذه العملية على مدار يومين كاملين، وقبل أن تكتشف إدارة المعتقل فرار أبو
الصاعد ورفاقه.
كما تمكن "أبو الصاعد" ورفاقه قبل فرارهم من الحصول
على ملابس مدنية زودهم بها عمال البناء المتواجدون في ورشة العمل؛ لكي يستبدلوا بها
ملابس الأسر بعد ابتعادهم عن المعتقل، ومما يسر تمكن الأسرى من الفرار وجودهم خارج
الغرف والزنازين بشكل شبه دائم.
وشرع الأسرى الثلاثة بالعمل والبدء بقص الشيك أثناء استراحتهم
من تلبية طلبات غرف الأسرى، وهي من قبيل (نقل الأوراق بين الغرف أو تزويدهم بالمياه
الساخنة أو نشر ملابسهم على حبل الغسيل الموجود في ساحة المعتقل) وخلال هذه الفترة
كانو يجلسون بجانب بعضهم ويبدأون بالحفر والقص، وكانوا يتوالون عملية إلهاء السجانون
عندما يقترب أياً منهم باتجاههم.
وعندما ينهون قص أي قضيب كانوا يعيدونه إلى مكانه بوساطة لب
الخبر الممزوج بالماء ومعجون الأسنان، فيصبح له فعل الغراء فيمسك القضبان الحديدية
ببعضها من جديد، وهكذا تواصل العمل إلى أن اكتمل وأصبحت الثغرة كافية لعبورهم منها
نحو الحرية.
مع تمام الساعة الرابعة عصراً تمكن "أبو الصاعد" من
قص قضيب الحديد الأخير من فتحة الفرار، وبعد أن خلت ساحة البناء من العمال والكلاب
والحراس أنسل ثلاثتهم منها، وأعادوا إليها قضبانها بمساعدة المادة اللاصقة التي ابتكروها
خصيصاً لهذا الغرض، وما هي إلا لحظات قليلة حتى أصبحو في ساحة البناء الممتلئة بالمعدات
وأكوام الرمل ومواد البناء والأسمنت، ومكثوا فيها حتى خيم الليل، وانتهت جولة العدد
الأخيرة بنجاح ودون انكشاف أمرهم وهذا يعني أن المطارق داخل الحمامات عملت بنجاح تام؛
بعد ذلك أطلق الأسرى الثلاثة أقدامهم للريح واختفوا في سديم الصحراء.
مضى يوم كامل على فرارهم دون أن تكتشف إدارة المعتقل أمرهم والمطارق
الخشبية ما زالت تعمل داخل الحمامات، بفضل التغطية البطولية التي قام بها الأسرى في
الغرف التي كان يسكنها الأسرى الثلاثة.
في صباح اليوم التالي اكتشف أبو الصاعد ورفاقه بأنهم لم يبتعدوا
كثيراً عن محيط المعتقل، بسبب عدم معرفتهم بجغرافية تلك المنطقة فجلسوا بملابسهم المدنية
على قارعة الطريق الرئيس، فاستوقفوا حافلة ركاب مدنية كانت تقل عدداً من الطلاب العرب،
وكان بحوزتهم القليل من الدولارات فاستبدلوها بشواقل إسرائيلية من أحد الركاب، بعد
أن أقنعوه بأن رب عملهم الإسرائيلي صرف لهم أجرهم بهذه العملة، فتوقفت الحافلة بهم
في مدينة بئر السبع ومن هناك استقلوا سيارة أوصلتهم إلى غزة.
داخل المعتقل، أحد السجانين الإسرائيليين بدأ بالبحث عن
"أبو الصاعد" وهو يطلبه بالاسم لأنه يريد أمراً محدداً منه بسبب عمله في
المردوان، فذهب إلى ساحة النزهة لأنه لم يجده في الممر؛ فذهب إلى غرفته، فأخبره من
فيها من الأسرى بأن أبو الصاعد في الساحة، فعاد الحارس إلى الساحة فلم يجده؛ فحدثته
نفسه بأن "أبو الصاعد" ممكن ذهب لمشفى الرملة لأنه طلب ذلك في الفترة الأخيرة،
فذهب الشرطي إلى مكتب الإدارة وفحص سجلات المغادرين إلى مشفى الرملة فلم يجد (لأبو
الصاعد – مسعود الراعي) أي ذكر في كشوف المرضى المغادرين للمشفى، عندها رن جرس الخطر
وتعالى دوى صافرات الإنذار التي اشعلت لهيب الاستنفار العسكري داخل المعتقل وخارجه،
وبدأ البحث الإسرائيلي المسعور عن الفارين الثلاثة.
بعد ثلاثة شهور على فرار الأسرى الثلاثة تم إلقاء القبض عليهم
واعتقالهم من جديد أثناء محاولتهم عبرو حدود قطاع غزة مع شبه جزيرة سيناء، وتمت محاكمتهم
بتهمة جديدة ورفع حكمهم إلى مؤبد مضاعف، لكن ذلك تم بعد أن سجلت سواعدهم واحدة من أشجع
عمليات الفرار التي عرفها سفر النضال الاعتقالي للأسرى الفلسطينيين والعرب، من داخل
معتقل يشبه علبه الفولاذ ومدجج بالسلاح من جهاته الأربع.
Kommentar veröffentlichen