للكاتب / د. ناصر اللحام
التأمل مرحلة من مراحل الفلسفة وفهم الحياة ، ومن
دون التأمل تبقى وجهة نظرنا عن الاشياء والمخلوقات ودورة الحياة منقوصة ، مراقبة
ظواهر الطبيعة سمة من سمات المفكرين والعلماء ، ولولا التأمل لما وصل العلم الى ما
وصل اليه . ومن بين الامور التي تشد الانتباه مراقبة سلوك الحيوان والنباتات .
الانتحاء الطبيعي عند النباتات مذهل ، وترى كيف ان
النبتة تميل بجذعها نحو النافذة تبحث عن الضوء ، فيما تذهب الخراف الى الزاوية
المعتمة في الزريبة عند النوم بحثا عن الامان . ولو حاولنا ربط نظريات علم
الاجتماع بأصل الانواع لوجدنا الكثير مما يلزمنا في حياتنا اليومية . ولعلمنا ان
البقاء للاقوى مجرد فرضية وان الفرضية الأكثر دقة هي البقاء للأصلح . ولو كان
البقاء للاقوى لبقيت الديناصورات الى يومنا هذا ولاختفى الناموس والجاموس
والفراشات الجميلة .
في وقتنا كان كتاب تشارلز داروين " أصل
الانواع" في المنهاج الدراسي ، اما اليوم فهو غير متوفر في المكتبات للقراءة
والنقد اللازم للاجيال الجديدة " في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي -
أو بقاء الأعراق المفضلة في أثناء الكفاح من أجل الحياة . وقد اثار الكتاب 1859
غضب الكنيسة لانه ناقض النظريات الدينية بفرضياته . ولكنه ظل وثيقة للبحث العلمي
والجدل الذي لا ينتهي في فصول تطوّر الانواع وملوح التراب والتكاثر والاهمال
والاستعمال وغيرها .
الخيول تضرب الماء بحوافرها قبل أن تشرب حتى تكف
عن رؤية صورتها في الماء ، والفيل يمشي الى المقبرة بقوائمه الاربع حتى يجلس ويموت
هناك ، وانواع من الضفادع تقوم بالتحوّل جنسيا فتكون ان أرادت أنثى وان ارادت ذكرا
بحسب الحاجة حتى لا تنقرض وتحافظ على النوع ، والحرذون تلقفه الافعى بفكها الواسع لتأكله
، فيمسك بعصا في فمه ويبقى لساعات لا تستطيع ابتلاعه حتى تتركه وتيأس منه فيهرب
ناجيا من موت محقق ، ونوع من الحيوانات ذات الفرو الابيض تحافظ على بياضها حتى
الموت ، وحين يريد الصياد الايقاع بها يلف المنطقة بالوحل . فيبقى الحيوان صاحب
الفرو الابيض واقفا حتى يموت ويرفض اتساخ فروه الابيض . وطائر حقير يضع بيضه في عش
زوجين اخرين من الطيور ويرمي البيض الأصلي ، فيقوم زوج الطيور " المغفل
" باطعامه حتى يصبح حجمه ضعف حجم الزوجين . وهو نوع حقير من البقاء نشاهده في
السياسة كثيرا .
الفيلسوف بيدبا أبدع أكثر في كتابه كليلة ودمنة ،
وهو وثيقة سياسية لا تقل قيمة عن كتاب الأمير لميكافيلي . ومن يقرأ كليلة ودمنة
ويفهم بين السطور ، يصبح فيلسوفا سياسيا بلا منازع . وحين قام بيدبا وأنطق
الحيوانات انما أراد ان يقول للشعوب الفارسية ما عجز او خشي عن كتابته بشكل مباشر
في البقاء السياسي .
نعم يمكن ان نتعلم من الحيوانات أكثر مما نتعلم من
كثير من السياسة .
والاغرب بين الحيوانات هي ذوات الدم البارد ،
حباها الله بجلد سميك فلا تتأثر بتقلبات الطقس ولا بخدوش الدهر ، تبلع بلعا ،
وتحطم عظام الطرائد بأسنانها دون رحمة ودون شفقة . لديها خبرة 80 مليون عام من
التمسحة والجشع .
وفي هذا المضمار يقول علماء النفس ان الحيوان قد
يمثل أحيانا ( الايجو ) لكل انسان . وان حيوانك المفضل او المكروه انما هو انت
ولكن بطريقة او اخرى . وان كثرة النوع لا تعني أنه الاقوى ، فأكثر مخلوقات على وجه
الارض هي الحشرات واقل الأنواع هي الاسود والنمور . ولا بد للقوة ان تكون ذكية
والا فانها ستندثر وتتلاشى بلمح البصر . وان كثرة توالد الظلفيات والانعام وذوات
القرون لم يعفها من ان تكون هي الضحية والوجبة الاسهل في الهرم الغذائي لنوع اخطر
واقوى وأشد بأسا وهو الانسان . نقطة اخرى شدّت انتباهي وأنا اجول في حديقة
حيوانات المالحة بالقدس ، وهي الحيوانات الاليفة والحيوانات غير الاليفة . هناك
حيوانات خلقها الله لتكون أليفة بطباعها وسلوكها وقدرة السيطرة عليها مهما بلغ
حجمها ولو كانت الفيل او الجاموس ، وهناك حيوانات لا يمكن ترويضها مهما كانت قدرة المدرب
مثل الضبع . وعلى اليابسة يكون الضبع من أخطر الحيوانات ولا ينصح بترويضه ، وفي
البرمائيات فان التمساح وحش لا يمكن ترويضه .
وعودة الى الشاعر الذي وجد ذئبا صغيرا وليدا ضعيفا
وضريرا ، فأخذه الى حظيرة الأغنام عند الشاة التي يربيها ، واسقاه الحلب وأطعمه
حتى شبّ وصار وحشا . وفي ليلة ما قام الذئب وقتل الشاة التي شرب من لبنها وحليبها
. فلما أفاق الشاعر ورأى ما جرى . قال للذئب :
يا ذئب
عقرت شويهتي وفجعت قلبي وكنت لشاتنا ولد ربيب
غذّيت بدرها وربيت فينا !!! فمن أنباك ان اباك ذيب
؟
اذا كانت الطباع طباع سوء فلا شعر نفع ولا أديب
اذا كانت الطباع طباع سوء فلا لبن نفع ولا حليب
إرسال تعليق